الفنان ناصر النوبي يكتب : إعلان دولة فلسطين …

الفنان ناصر النوبي

في خضم وقف إطلاق النار ومتاهات الحرب، وبين أنين غزة وصوت السلام، تبرز قضية لا يمكن تجاهلها: إعلان دولة فلسطين كخلاصة لتضحيات شعبٍ دفع أثمانًا باهظة من دماء أبنائه. فبعد هذا السيل من المعاناة والقتل والدمار، لابد من موقف تاريخي يضمن بقاء الضحايا في ذاكرة الإنسانية ويمنع تكرار الكارثة أو إجهاض حق شعبٍ في وطنه.

مشاهد القتل الجماعي للأطفال والنساء والمدن المهدمة تكشف وجهاً من الوحشية لا ينتمي إلى المنطق الإنساني ولا إلى قيم الحضارات. إن استهداف المدنيين، ونكران ألم فقد الأم والطفل، هو فعل يخرج عن حدود الانتقام ليصبح جريمة ضد الإنسانية، تستوجب تحرّكًا قانونيًا وأخلاقيًا من المجتمع الدولي، وليس تبريرًا باسم الانتقام أو استعادة التوازن.

لا يجوز لأحد أن يتجاهل أن المقاومة والدفاع عن الوطن حقٌ مشروع لكل شعب يتعرض للإبادة أو الاحتلال. وفي الوقت نفسه، فإن قرار مواجهة مصير ملايين البشر يجب أن يتسم بالحكمة والرشد، لأن للحروب ثمنًا باهظًا لا يدفعه المحاربون وحدهم بل يدفعه الأبرياء والمجتمعات بأسرها. لذلك يجب أن تكون أي خطوة في هذا السياق محسوبة لدى صانعي القرار، وأن تُحكم لها ضوابط تحافظ على أرواح الناس وكرامتهم.

لقد أظهرت إدارة الأزمة المصرية براعة واستعدادًا لتخفيف المعاناة عبر قوة ناعمة متعددة الألوان، ودورًا دبلوماسيًا محوريًا يستحق التقدير. على مصر أن تستمر في هذا الخط الذي يضع الإنسان في المقام الأول ويعيد للمجتمع الدولي حسّ المساءلة والعدل. التاريخ لا يُحاكم بمعزل عن مبادئ العدالة؛ هناك جرائم لا تسقط بالتقادم، ومن يتعامل مع هذه الحقيقة بلغة السياسة يجب أن يكون واعيًا لمسؤولياته أمام الأجيال.

إن الحديث عن جذور الكراهية والبحث في أسباب التصرفات العنيفة لا يجب أن يتحول ذريعة لتبرير العنف ذاته. لا يمكن أن ننسى تاريخًا مؤلمًا لأممٍ مارست الفتك عبر العصور، لكن محو هذا التاريخ لا يكون بترديد العنف بل بقطع دوائر الانتقام ورفع قيم الحوار والعدالة. الشعوب التي تريد العودة إلى حضارة متقدمة لا بد أن تتجاوز عقد الانتقام وتبني مؤسسات تحفظ حقوق الإنسان وتكفل العدالة للجميع.

نحن بحاجة اليوم إلى موقف إنساني واضح: وقف للنار يتبعه مسار سياسي جاد يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني ويؤسس لسلام عادل ودائم. لا نريد الانتصارات الزائفة التي تُقاس فقط بالحسابات العسكرية، فالحرب لا ينتصر فيها أحد حقًا طالما أن الخسائر الإنسانية مستمرة. المستقبل ينشأ من العدالة، ومن استرداد الروح الإنسانية التي تُخاطَب بالقوانين والضمائر.

فلنكن مع الحق والإنسانية أولاً، ولنطالب بإعلان دولةٍ فلسطينيةٍ تضع حدًّا لمعاناةٍ طال أمدها، ولتُحمَل التضحيات خير شاهد على ضرورة إنصاف الضحايا واحترام كرامتهم. هكذا نستعيد الأمل، ونُبقي الحروب في نفايات التاريخ، ونمضي قُدُمًا نحو مستقبلٍ أفضل

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.