عبدالرحمن حسين يكتب : توقف القصف.. وبقيت غزة

عبد الرحمن حسين

توقف دويّ الطائرات، وخمدت أصوات الانفجارات، وسكنت السماء التي طالما كانت تمطر نارًا وحديدًا. عمّ الصمت المدينة فجأة، لكنه لم يكن صمت الراحة، بل صمت ما بعد العاصفة، صمت المكلومين الذين يحصون أسماء أحبّتهم تحت الركام، وصمت مدينةٍ أنهكها الحصار والدمار، لكنها ما زالت تتنفس رغم الألم.

بقيت غزة

بقيت بجراحها، بدموعها، وبإصرارها الذي لا ينكسر. كل زاوية فيها تحمل ذاكرة حرب، وكل طفلٍ فيها يحمل حكاية لا يحتملها الكبار. توقّف القصف، لكن رائحة البارود ما زالت في الهواء، والغبار ما زال عالقًا على جدران البيوت المهدّمة، وأصوات الأذان تمتزج بنداءات البحث عن المفقودين.

في شوارعها، تمرّ سيارات الإسعاف مثقلةً بالذكريات، لا بالمصابين. وجوه الناس شاحبة، لكنها مرفوعة. الأيدي التي كانت ترفع الحجارة في وجه الدمار، باتت ترفع الأعلام في وجه اليأس. في غزة، لا يموت الأمل حتى في المقابر.

توقّف القصف، لكن الحصار لم يتوقف. فالألم له أشكال كثيرة، منها الجوع، ومنها الخوف، ومنها انتظار الغد المجهول. ومع ذلك، تمضي غزة بخطواتٍ صغيرة، لكنها ثابتة. تُعيد بناء ما تهدّم بأدواتٍ بسيطة وقلوبٍ كبيرة، وتزرع الورد مكان الشظايا، وتخطّ على جدران الخراب عباراتٍ من الحياة.

في المساء، حين تغيب الشمس خلف البحر، يجلس أهلها على أنقاض منازلهم يتحدثون عن الغد. لا عن الانتقام، بل عن العودة، والتعليم، والعيش الكريم. فالغزيون لا يطلبون المستحيل، إنما يريدون فقط أن يعيشوا بكرامة، كما يعيش البشر في بقاعٍ أخرى من الأرض.

بقيت غزة لأن فيها ما لا يُقصف: روحٌ لا تُهزم، وكرامةٌ لا تُباع، وإيمانٌ بأن بعد الليل فجرًا، وبعد كل حربٍ ولادة جديدة. بقيت غزة لأنها تعلّمت أن الحياة ليست نقيض الحرب، بل هي مقاومتها اليومية.

توقف القصف… وبقيت غزة… بقيت لأنها لا تعرف سوى البقاء، ولأنها ببساطة، أقوى من الموت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.