حرب أكتوبر المجيدة كانت وستظل علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، وشرفًا خالدًا للعسكرية المصرية، وعزةً وكرامةً للشعب المصري البطل. فهي لم تكن مجرد حرب استرد فيها الجيش أرضًا، بل كانت استعادة للروح، وللثقة، وللقدرة على صناعة المعجزة بأيدٍ مصرية خالصة.
لم يكن انتصار أكتوبر حدثًا عابرًا، بل كان تحولًا في موازين القوى، ونقطة فاصلة بين زمنين: زمن الانكسار بعد نكسة 1967، وزمن النهوض والعزة منذ فجر السادس من أكتوبر 1973، حين عبرت قواتنا المسلحة قناة السويس في عز الظهر، في توقيت لم تعرفه الحروب من قبل، فكانت المفاجأة التي أربكت العالم وأذهلت الأعداء.
في ست ساعات فقط، تم تحطيم خط بارليف الذي كان يُعدّ أعقد مانع مائي في التاريخ العسكري، وسقطت أمام زحف المصريين أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، ووقفت الأكاديميات العسكرية في العالم أمام هذا الحدث طويلاً، تدرسه وتوثّق عبقريته كأحد أعظم دروس الحروب الحديثة في التخطيط والخداع الاستراتيجي.
أكتوبر لم يكن معركة عسكرية فحسب، بل كان ملحمة إنسانية ووطنية بامتياز. هو قصة رجال آمنوا بالوطن وبالكرامة، وصنعوا للمصريين تاريخًا نفتخر به جيلاً بعد جيل. إنها ملحمة ما زالت فصولها تُروى، وما زالت روحها حية في ضمير الأمة، لأن الروح لا تموت.
وفي الذكرى الثانية والخمسين لهذا النصر العظيم، نتذكر بطولات جيشنا وشهداءنا بفخر، فيما تتذكرها إسرائيل بمرارة الهزيمة والخذلان. وبعد مرور أكثر من نصف قرن، ما زال قادة الكيان الصهيوني يشعرون بمرارة العلقم في حلوقهم كلما جاء السادس من أكتوبر.
في كل عام، وعشية احتفال حكومتهم بعيد الغفران، يستعيدون ذكرى العبور العظيم، وكأنها جرح لا يندمل. وفي إحدى تصريحاته قال بنيامين نتنياهو نصًا: لن نرتكب هذا الخطأ مرة أخرى أبداً مؤكدًا عزم بلاده على التحرك بلا هوادة لمنع أعدائها من امتلاك أسلحة متطورة وهي عبارة كاشفة تختصر ما تعانيه إسرائيل من عقدة أكتوبر حتى اليوم.
إن هذا الشعور المتجذر في عقل قادة الكيان يؤكد لنا وللأجيال التي لم تعرف عن أكتوبر إلا القليل أن نصر أكتوبر لم يكن مجرد معركة في الماضي، بل كان زلزالًا نفسيًا واستراتيجيًا لا تزال ارتداداته تهزّ إسرائيل حتى اليوم. لقد خلّف العبور العظيم جرحًا غائرًا في وجدانهم، جرحًا ما زال ينزف وسيظل ينزف طويلاً.
ومهما طالت سنوات السلام علينا ألا ننسى نوايا إسرائيل تجاهنا وتجاه المنطقة بأسرها.. تصريحات قادتها وحدها كافية لتؤكد أن هذا الكيان لا يرى في السلام إلا وسيلة لفرض شروطه، ولا يعترف بحقوق الآخرين إلا بقدر ما يخدم مصالحه !
وقال نتنياهو أيضًا: ” أخطأت الاستخبارات الإسرائيلية عندما فسرت بشكل خاطئ النوايا المصرية في شن هجوم علينا “..وهو اعتراف صريح بأن أسطورة المخابرات الإسرائيلية كانت مجرد وهم صنعته الدعاية الصهيونية!
لقد استطاع جهاز المخابرات المصري تنفيذ خطة خداع استراتيجي على أعلى مستوى، أربكت إسرائيل وشلت قدرتها على الرد، حتى صرخت جولدا مائير مستنجدة بأمريكا لتقيم جسرًا جويًا ضخماً تهبط منه الدبابات الإسرائيلية مباشرة إلى ساحة المعركة
لكن الأخطر في كلام نتنياهو هو قوله ” إن بلاده ستتحرك بلا هوادة لمنع أعدائها من التزود بأسلحة متطورة ” وهو تصريح يفسر بوضوح لماذا تسعى مصر منذ سنوات إلى تنويع مصادر سلاحها وعدم الارتهان لأي طرف .. إن تطوير الجيش المصري وتسليحه بأحدث الأنظمة الهجومية والدفاعية، وتجديد عقيدته القتالية، كلها دروس مستفادة من أكتوبر، ووعي متجدد بطبيعة العدو الذي لا يهدأ ولا ينام.
لقد فهمت القيادة المصرية الدرس جيدًا، وأدركت أن الحفاظ على السلام لا يكون بالشعارات، بل بالقوة التي تحميه .. ولهذا، جاء الاهتمام بتحديث القوات المسلحة وتوسيع قدراتها البحرية والجوية والإلكترونية، بما يضمن لمصر مكانتها الإقليمية ويصون أمنها القومي ضد أي تهديد محتمل، وربما هذا ما يغيب عن وعي بعض الأجيال الجديدة التي لم تعاصر تلك اللحظات الخالدة
إن من لم يعش زمن العبور لا يدرك حجم التضحية ولا يشعر بنبض المعركة التي استعادت بها مصر كرامتها .. لذلك فإن تذكير هذا الجيل بمعنى أكتوبر هو واجب وطني بامتياز لأن الأمم التي تنسى ماضيها تفقد بوصلتها نحو المستقبل.
إننا ونحن نحتفل بذكرى النصر المجيد، نحيّي كل من قاتل وشارك وصنع النصر، من القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى آخر جندي على خط النار بلا استثناء
تحية إجلال لكل شهيد ارتقى دفاعًا عن الأرض والعِرض، وتحية وفاء لكل مقاتل حمل روحه على كفه ليكتب لمصر سطرًا جديدًا من المجد والعزة.
وسيبقى السادس من أكتوبر يومًا خالدًا في وجدان الأمة، يومًا نذكر فيه أن المستحيل ليس في قاموس المصريين، وأن الجيش المصري سيظل – كما كان دومًا – الحصن والسند، والعقبة الكؤود في وجه كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من أرض مصر.
كل عام ومصر بخير، ودائمًا وأبدًا.. تحيا مصر.