جيهان عبد الرحمن تكتب : فتاة المشفي

جيهان عبد الرحمن

قادني القدر بخطوات عابرة إلى بوابة المستشفى العام، وهناك وقعت عيناي على مشهد لن يمّحي. فتاة نحيلة الجسد، مطأطأة الرأس، تطوي وجهها بين ذراعيها كمن يريد أن يحجب ملامحه عن العالم، جالسة القرفصاء على الرصيف البارد. بدا وكأنها قد انسلخت من الدنيا، وغرقت في عزلتها الصامتة.

إلى جوارها وقف أبٌ أنهكته الحقول، لوّحت الشمس جلده حتى صار وجهه خريطة من التعب، لم يبقَ فيه سوى أسنان داكنة تختلط فيها العتمة بالاصفرار، تنطق دون كلام عن حياة لم تعرف الراحة يومًا، مستسلما للقهر، أما الأم فكانت نسخة أخرى من البؤس، لكن يطل من عينيها بريق امرأة مازالت تقاوم وتُكابر في وجه الدنيا.

بادرتني الأم بصوت خافت تسأل عن تكلفة تحاليل الدم لابنتها، وهل ما زال الزواج يحتاج الي إجراء فحص طبي وشهادة معتمدة من وزارة الصحة, أخبرتهم بما يتاح لي من معلومات وسألتهم أن كانت زيارتهم للمستشفي العام لفحص الفتاة قبل زواجها …فكانت المفاجأة بأن الطبيبة أخبرتهم بضرورة إجراء التحاليل لأن ابنتهم مريضة وأنها كانت متزوجة بالفعل منذ ثلاث سنوات بعقد عرفي.

عندها رفعت الفتاة رأسها، فإذا بوجه شاحب يواجهني، لا يميّزه سوى سواد كحلٍ قديم يحيط بعينين كانتا يومًا نافذتين للأحلام، فإذا بهما الآن لا تحملان سوى عتاب مرير للعالم، ونصف ابتسامة جافة ساخرة كأنها تلعن قسوة الحياة.

بضع كلمات مع الأهل كشفت لي فصول المأساة: طفلة لم تكمل الخامسة عشرة، انتُزعت من مقاعد المدرسة الصناعية بحجة مجاملة لأخٍ، وبحكم أعراف قاسية. في أيام معدودة تحوّلت إلى زوجة بعقدٍ عرفي لابن خالها، رغم علم الجميع بفقره وبخله، ومرضه النفسي، وقسوة أمه. ولم تكد تمضي أشهر حتى عادت مطلقة، بلا متاع، بلا حقوق، مثقلة بجراح الجسد والنفس، ونزيف وإجهاض وآلام لا حصر لها.

قالوا لي: “سُلو البلد هكذا”. لكن الحقيقة كانت أفقر من ذلك؛ كانت مجرد صفقة خاسرة، وأمٌ أرادت أن تجامل أخاها وتلقي عن كتفيها عبء تعليم ابنتها.

ها هي الفتاة اليوم في الثامنة عشرة، ثلاث سنوات فقط كانت كفيلة بأن تسلب منها طفولتها، وتحوّلها إلى أنقاض امرأة لم تختر طريقها، ولم تحصد من الدنيا إلا الشقاء.

وحين طالبتُ بأن تعود إلى مدرستها، رمقت والديها بنظرة مكسورة وقالت بمرارة:

“لا إرادة لي في شيء… هما يفعلان بي ما يشاءان.”

أما الأم والأب فاختزلا مصيرها كله في جملة واحدة:

“لا نملك مصروفات التعليم، ولا نقدر عليه…”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.