جهاد شوقى السيد تكتب: معركة العقول قبل السلاح

لم تعد الحروب في عصرنا الحديث تقتصر على المدافع والدبابات والجيوش النظامية، بل تحولت إلى حروبٍ من نوعٍ آخر، تدار من خلف الشاشات وبأدواتٍ ناعمة، لكنها لا تقل خطورة عن القذائف والصواريخ. إنها «حرب العقول» أو ما يعرف بحروب الجيل السادس، حيث تستهدف المجتمعات من الداخل عبر تفكيك قيمها ومبادئها وزرع الشك والخوف في نفوس أبنائها.
فمنذ أحداث ثورات الربيع العربي، دخلت المجتمعات العربية في مرحلةٍ من التغير المستمر في القيم والعادات التي طالما سادت لعقود وتوارثتها الأجيال أبًا عن جد.
ظهر جيلٌ جديد يعيش حالة من التخبط بين الواقع الذي يراه يوميًا وبين الطموحات التي يسعى إليها.
جيل يبحث أحيانًا عن الانتماء لوطنه، وأحيانًا أخرى ينجرّ وراء بريق المادة والحياة الغربية والتي تفتقد للعاطفة.
«اللجان الإلكترونية» المدفوعة
فقد لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا بالغ التأثير في هذه المعركة، فهي من جهةٍ وسيلة للتقارب والتعبير،
لكنها في الوقت نفسه ساحة مفتوحة أمام كياناتٍ منظمة تسعى لتدمير وعي الشباب، عبر «اللجان الإلكترونية» المدفوعة،
فيتم بث الأفكار الهدامة بشكلٍ ممنهج ومنتشر كأسراب الجراد، وهدفها هو زعزعة الروح الوطنية وتفكيك المجتمعات دون طلقة واحدة.
وانعكست هذه الحروب الناعمة على بنية الأسرة، فباتت أخبار القتل والعنف الأسري تتصدر المشهد اليومي،
مما ترك أثرًا نفسيًا سلبيًا لدى الشباب، وأصابهم بالخوف من تكوين أسر جديدة. فبعض الفتيات يعزفن عن الزواج،
وبعض الشباب يرفضونه خوفًا من المسؤوليات أو الماديات. وهناك من يغذّي هذا التوجّه في الخفاء ليضمن تفكك الأسرة،
باعتبارها اللبنة الأولى في بناء الدولة.
إلى جانب ذلك، برزت ظاهرة مقلقة تتمثل في صعود فئة من «أثرياء الصدفة» أو «محدّثي النعمة» الذين يحققون ثروات هائلة عبر طرق سهلة مثل منصات البث المباشر أو التطبيقات الترفيهية، لا يملك هؤلاء في كثير من الأحيان تعليمًا كافيًا أو خبرة حقيقية، لكنهم يحصدون “ملايين الجنيهات” وهذا المشهد يثير الإحباط لدى الفئات الكادحة من مهندسون، أطباء، معلمون، ضباط، وعاملون بالدولة، الذين يستيقظون كل صباح سعياً وراء لقمة العيش، حاملين على عاتقهم أعمدة الدولة الحقيقية ،الفجوة المتزايدة بين «المال السهل» و«الكدح الشريف» ولّدت شعورًا بالظلم وفقدان التكافؤ.
حرب نفسية وفكرية تسعى إلى ضرب المجتمع من الداخل
في الماضي، كان العدو واضحًا، والحروب تقليدية بين دولٍ وجيوش، حيث يعرف الخصم وتخاض المعركة وجهًا لوجه. لكن اليوم، أصبحت الحرب أخطر:
لا ترى بالعين المجردة، بل تستهدف الجذور وتضعفها، بحيث يسهل اقتلاع الشجرة من أساسها.
إنها حرب نفسية وفكرية تسعى إلى ضرب المجتمع من الداخل، بتفكيك روابطه وزرع الفوضى الفكرية والشك.
على مرّ التاريخ، تصدت مصر لمؤامرات وغزوات كبرى مثل الهكسوس الذين اقتلعت جذورهم من أرضها، والتتار الذين توقف زحفهم عند حدودها،
وصولًا إلى نصر أكتوبر المجيد الذي أعاد للأمة كرامتها. المصريون يملكون سلاحًا خاصًا يميزهم: العاطفة القوية والإيمان بالانتصار.
فإذا أيقنوا بالقدرة على النصر، حققوه بالفعل، وإذا واجهوا عدوًا حقيقيًا، أزالوه من الوجود.
ولكن ما يواجهه الجيل الحالي مختلف: إنه هجوم يستهدف المعتقدات والروح الوطنية والانتماء ذاته.
لذلك، فإن تحصين العقول بات ضرورة لا تقل أهمية عن تحصين الحدود. وعلينا أن نعزّز قيمنا، ونحصّن أبناءنا بالتعليم والتوعية والقدوة الصالحة، ونعرفهم العدو الحقيقي الذي يختبئ خلف الشاشات والكلمات المعسولة. فالمعركة ليست في الميدان فحسب،
بل في الفكر والوعي والذاكرة الجماعية.
ومن يحسن إدارة هذه الحرب، يضمن بقاء وطنه صامدًا أمام كل محاولات الاختراق والتفكيك.