ملامح من مجلد د غريب جمعة عن الإمام الخضر حسين شيخ الأزهر ( 4 )
بقلم الشاعر محمد الشرقاوي
نعود معك أيها القارئ الكريم لنستكمل حديثنا عن المرحلة السورية من حياة الإمام الخضر حسين شيخ الأزهر، ذكرنا أنها كانت طويلة متشعبة في أحداثها على الرغم من قصرها من حيث المدة ولذلك رأينا أنه من الأفضل تناولها عبر مقالين حتى لا نثقل عليك وقد استعرضنا معا في المقال السابق (الثالث) الفصل الأول من المرحلة السورية والذي شمل مجموعة ضخمة من الأحداث التي قام بها الإمام بعد هجرته من تونس إلى سوريا ورأينا كم كان لعلو شأنه ورفعة منزلته أثر بالغ في الأوساط العلمية السورية التي أكرمت ورحبت واحتفت بالإمام بطريقة رائعة تناسب مكانته العلمية وشهرته التي سبقته إلى هناك وسوف نكمل معا تلك المرحلة لتوضيح المزيد والمزيد.
– الفصل الثاني: اعتقال الإمام
ومن الأحداث العظيمة في تلك المرحلة ما تعرض له الإمام في عهد السفاح أحمد جمال باشا الحاكم التركي للشام وفي المجلد تفاصيل موسعة عن هذه الواقعة نلخصها فيما يأتي:
كان الإمام جالسا ذات يوم مع بعض الشخصيات من بينهم أحد المحامين الذي ظل ينتقد سياسات الدولة العثمانية ويدعو للخروج عليها لكن الإمام ظل يحاوره بالحجة والبرهان رافضا ما يسعى إليه ذلك المحامي وكان من الحاضرين الشيخ صالح الرافعي الذي أكد أمام المحكمة براءة الإمام من تهمة انتقاد الدولة العثمانية ودعم الخروج عليها ورغم تلك الشهادة إلا أن الإمام قضى في معتقله ستة أشهر وأربعة عشر يوما ثم تدخل أنور باشا وزير الحربية التركي وأمر برفع المعاناة عن الإمام وتم إعلان براءته وقد نصحه البعض بطلب تعويض عما حدث له إلا أنه رفض ذلك وقد سجل الإمام بنفسه تلك الأحداث في مقالة نشرت بمجلة البدر التونسية. ومن الجدير بالذكر أن الإمام كان يرى أن البقاء في ظل الوحدة الإسلامية أنفع للدول وأضمن لقوتها حتى وإن شابه تلك الوحدة بعض القصور في القرارات أو طرق تنفيذها وقد لقي هذا الموقف قبولا شديدا في الأوساط التركية وكان من نتائجه تعيين الإمام واعظا في مسجد السلطان محمد الفاتح في استانبول حين سافر إليها كما قوبل إعلان براءته بسعادة بالغة من كبراء دمشق وعامة أهلها وظل الإمام مواظبا على إلقاء دروسه ومواعظه وجهاده العلمي والميداني حسبة لله وليس لأي أهداف شخصية.
– موقف الإمام من قصة داود عليه السلام
ومن الدلائل القوية على رجاحة عقل الإمام موقفه من قصة داود عليه السلام مع من تسورا عليه المحراب، فقد أقرت تفاسير عديدة أن الشخصين كانا ملكين لكن الإمام أقر بأنهما رجلان من الأنس وأن استغفار داود جاء نتيجة لسوء ظنه بهما وبما يريدانه منه وكان رأيه متفقا مع رأي الإمام ابن حزم.
ولم ينس د غريب أن يذكر لنا ما أبدعه الإمام من أشعار متأثرا خلالها بأحداث اعتقاله ثم براءته وكذلك سعيه إلى الوحدة العربية التركية وأيضا تغنيه بجمال دمشق ومناظرها الخلابة وطبيعتها الساحرة كما أنشد متحدثا عن كثرة أسفاره ونقرأ من تلك النماذج ما قاله في صفحة ٨٧ متأثرا باعتقاله وحرمانه من أدوات العلم والكتابة حيث قال:
غلَّ ذاكَ الحبسُ يدي عن قلمٍ
كان لا يصحو عن الطرسِ فناما
هل يزودُ الغمضُ عن مقلتِهِ
أو يلاقي بعده الموتَ الزؤاما
أنا لولا همةٌ تحدو إلى
خدمةِ الإسلامِ أثرتُ الحِماما
ليستْ الدنيا وما يُقسمُ مِن
زهرِها إلا سرابًا أو جهاما
وفي الأبيات ألمه الشديد لمنعه من أدوات العلم وتدوين الأفكار عن تلك الجراح الغائرة كما يوضح هدفه الأسمى من الحياة وهو خدمة الإسلام فقط لأن الدنيا في عينيه مجرد سراب زائل لا تستحق الحرص عليها.
– نضال الإمام في ألمانيا
أما الفصل الثالث من الباب الثاني فقد خصصه الكاتب للحديث عن نضال الإمام في ألمانيا من أجل مصلحة الإسلام عامة ودول المغرب العربي خاصة ونبدأ من حيث تكليف الإمام من قبل الدولة العثمانية بالسفر مرتين إلى ألمانيا فكانت الأولى عام ١٩١٧ واستمرت لمدة تسعة أشهر، أما الثانية فكانت في عام ١٩١٨ واستمرت مدة سبعة أشهر وقد التقى العديد من كبار الشخصيات منها المصرية مثل الشيخ صالح الشريف وعبدالعزيز جاويش والزعيم محمد فريد ومنها أيضا التونسية مثل الزعيم محمد باش حانبة شقيق على باش حانبة وهذان الشقيقان كان لهما أثر كبير في نشأة فكرة وحدة دول المغرب العربي وتحريرها من قبضة المحتل، وقد قام محمد باش حانبة بتأسيس لجنة في برلين للدفاع عن قضايا دول المغرب العربي كما أسس مجلة المغرب التي كانت تصدر باللغة الفرنسية في جنيف وظل هذا الرجل يناضل حتى بعد استسلام الدولة العثمانية أمام الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٨م ثم مات غريبا عن وطنه عام ١٩٢٠م.
أما عن مواصلة الإمام الإمام الخضر لجهاده فكان يتواصل مع الجنود الذين جندتهم فرنسا عنوة من أبناء المغرب العربي وذلك أثناء حربها ضد ألمانيا، فظل الإمام يدعوهم إلى الثورة على فرنسا وتحرير بلادهم من قبضتها وكان من نتائج ذلك أن ظلت فرنسا ترصد وتتعقب نشاط هذا الشيخ الجليل إلى أن أصدرت حكمها بإعدام الإمام ومصادرة أملاكه في وطنه الأم وتم نشر هذا الخبر بتونس عام ١٩١٧م وتحديدا في جريدة الرائد التي تصدر باللغة الفرنسية.
– مسجد برلين
وتستمر جهود الإمام في ألمانيا وتثمر عن موافقة الحكومة الألمانية على إنشاء مسجد برلين ليتمكن الأسرى المسلمون من إقامة صلاتهم وتم افتتاحه بحضور سفير الدولة العثمانية ومسئول الخارجية الألمانية والعديد من الشخصيات البارزة سياسيا واجتماعيا وتوالت الكلمات خلال تلك المناسبة وكان منها كلمة مؤثرة للإمام حيث ارتكزت على عدة نقاط أهمها:
١- نجاح الحكومات يعتمد على إنجاز الأعمال الضخمة والجبارة.
٢- ضرورة الجمع بين الحزم واللين لكسب قلوب الناس.
٣- أهمية توفر الحرية المطلقة لتنمية الضمير الإنساني.
ثم أشاد الإمام بدور ألمانيا ومساندتها لرغبات المسلمين في ممارسة شعائرهم الدينية على العكس من فرنسا التي سيطرت على مساجد الجزائر وجعلت منها ثكنات عسكرية لجنودها ثم أشار إلى ضرورة تمسك المسلمين بشريعتهم أو طلب الشهادة فداء لها.
– ذكريات وأشعار الإمام في برلين
يعود كاتبنا إلى الناحية الوجدانية ذاكرا بعض ما سجله الإمام عن ذكرياته في برلين وما صاغه من أشعار متأثرا بالبيئة والطقس وملامح المدنية هناك وكذلك نعلم من السطور أنه تعلم اللغة الألمانية وتعرف على ثقافة الشعب هناك كما درس علوم
الطبيعة والكيمياء على يد البروفيسور الألماني هردر وكانت له اهتمامات عديدة بالجوانب العلمية والأدبية في ذلك المجتمع ولنقرأ من صفحة ١٠٣ ما أنشده من أبيات في وصف الثلوج المتراكمة فوق الأشجار حين تمضي نحوها أشعة الشمس فتذيبها وقد صور الإمام هذا المشهد ببراعة تامة قائلا:
نسجَ الغمامُ لهذه الأشجارِ مِن
غزلِ الثلوجِ براقعًا وجلاببا
والشمسُ تبعثُ في الضحى بأشعةٍ
تسطو على تلكَ الثيابِ نواهبا
فبكتْ لكشفِ حجابِها أو ما ترى
عبراتِها بين الغصونِ سواكبا
لاحظنا روعة وجمال التصوير حيث يصور مشهد الثلوج التي تغطي الأشجار بالملابس التي تغطي جسم المرأة أو الفتاة كاملا ثم تأتي أشعة الشمس لتنزع تلك الملابس فتنسال الثلوج بين الأغصان كما تنسال دموع المرأة عند كشف حجابها وقد برع الإمام في استخدام الأساليب البلاغية من التشبيه والاستعارة وغير ذلك.
– استحضار الأرواح
يشير كاتبنا إلى رأي الإمام في موضوع استحضار أرواح الموتى حيث ثارت مناقشات واسعة وجدل طويل بين العلماء في هذا الأمر ولكن الإمام كان من الفئة المعارضة التي نفت قدرة الإنسان على تنفيذ هذا الأمر وقد التقى في ألمانيا بأحد القساوسة الذين أكدوا أن هذا الأمر باطل وهو من الدجل والشعوذة، كما قامت بعض المحاكم في انجلترا بمحاولة تطبيق موضوع استحضار أرواح الموتى ولكنها لم تحصل على أي نتائج ونقرأ ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في هذا الشأن من صفحة ١٠٦:
لا تسمعنَّ لعصبةِ الأرواحِ ما
قالوا بباطلِ علمِهم وكذابِهْ
الروحُ للرحمنِ جلَّ جلالُهُ
هي مِن ضنائنِ علمِهِ وغيابِهْ
غُلِبوا على أعصابِهم فتوهموا
أوهامَ مغلوبٍ على أعصابِهْ
والأبيات واضحة من حيث النفي التام لهذا الأمر، كما يوجد بالمجلد أراء بعض المؤيدين منهم الأستاذ فريد وجدي والشيخ المراغي والإمام محمد عبده ولكن كاتبنا د غريب جمعة يتفق في الرأي مع الإمام الخضر حسين في نفي هذه الفكرة.
– وصف برلين
لا تزال الصفحات عامرة بالجديد حيث تتدفق المعلومات بكل ما هو مثير وهنا نطالع بعض ما ذكره كاتبنا عن الحياة في برلين من خلال تدوينات الإمام ومنها:
١- الديانة: معظم الشعب على مذهب البروتستانت مع اعتراف كثير من العلماء بأهمية القرأن في دعوته للتوحيد.
٢- العمل الجاد: وهي سمة من سمات الشعب الألماني حيث لا يألو جهدا في إتقان عمله والتفاني من أجله.
٣- إنشاء دار الكتب: وقد أمر بذلك فريدريك الأول وكانت تضم مليون ونصف من المجلدات منهم قسم للعربية والتركية.
٤- التعليم: يعني بجودة المحتوى والتزام السلوك القويم.
٥- المشروعات الخيرية: وتقوم على مساعدة المحتاجين دون أي تجريح أو أذى نفسي لهم.
٦- ترجمة معاني القرآن: وقد بدأها المستشرق ركرت ولم يكملها لوفاته لكن هناك ترجمة كاملة للمستشرق هينك.
٧-؛الاهتمام باللغة العربية: حيث قام البروفيسور هردر بتأليف كتاب عن قواعد اللغة العربية وكان يدرس هناك.
– من خواطر الإمام
وإلى جانب موهبة الإمام في مجال الشعر فقد كانت له خواطر أخرى صاغها في نقاط معبرة عن الحكمة وخلاصة تجارب الحياة نقرأ منها ما جاء في صفحة ١١٥:
١- إذا وثقت بعرى التوكل على الله فلست في حاجة أن تمر إلى الحق على جسر من الباطل.
٢- لا تثق في نفسك فيما تدعي من الإخلاص لأمتك حتى يلذ لك أن تصلح الخلل في نظامهم وهم لا يشعرون.
٣- اربط نفسك باعتقادك أنك تعمل لمن يشب أو ينشأ بعد موتك حتى لا يكون في صدرك حرج أن تكون بضاعتك بين أهل عصرك كاسدة.
وفي المجلد الكثير من هذه الحكم التي تربي النفس على صدق الإيمان والعطاء والحفاظ على سلامة الفرد نفسيا وسلام المجتمع كذلك وضمان التوافق بين الأفراد داخل المجتمع وكذلك أبناء الأمة كلها.
– العودة إلى دمشق
تقترب أحداث المرحلة السورية من نهايتها حيث يغادر الإمام الخضر ألمانيا عائدا إلى دمشق متنقلا من ميناء لآخر ومن مدينة لأخرى حتى وصل إلى جبل طارق فتجددت أحزانه على ضياع الاندلس بعد عدة قرون تحت مظلة الخلافة الإسلامية وكأن التاريخ يعيد نفسه باستسلام الدولة العثمانية أمام قوات الحلفاء فكانت تلك المشاعر بالغة الأثر في نفسه حتى أنشد قصيدة رصينة في هذا الشأن نقرأ جانبا منها في صفحتي ١١٧ ، ١١٨:
أرى جبلًا تسنَّمه قديمًا
دعاةُ الحقِّ والسننِ الحسانِ
وساسوا أرضَ أندلسٍ بعدلٍ
كما صنعوا بأرضِ القيروانِ
وما انقلبتْ إلى الأسبانِ إلا
على أيدى المزامرِ والقيانِ
إلى أن يقول:
قصدتُ إلى الشآمِ ولستُ أدري
أيقسو أم يلينُ بها زماني
وصلتُ إلى طرابلسٍ وحيدًا
أعاني بالتفكرِ ما اعاني
يشينُ مكانَها علمٌ غريبٌ
وذاك علامةُ الوطنِ المهانِ
وهكذا تفيض الأبيات حسرة ومرارة على ضياع امجاد الأمة دون أن تعتبر بما حدث وبما يحدث لها وكأنه يشكو إلى الله من النائمين والخائنين ودعاة التفرق كما ينبه الأجيال القادمة باليقظة والوعي التام لأن الأعداء لن يتراجعوا عن مطامعهم.
– خاتمة
كانت تلك جولة في أهم أحداث المرحلة السورية من حياة الإمام الخضر حسين حاولنا بقدر الإمكان تقديمها للقارئ بشكل موجز لأنها متعددة متشعبة متلاحقة فلا يكاد يحدث أمر ما إلا ويتبعه أمور لا حصر لها كما كانت بالغة الأثر سواء على مستوى حياة الإمام ومواقفه أو على مستوى الأمة الإسلامية ككل حيث شهدت عدة جولات وانتقالات فمن دمشق إلى استانبول إلى المدينة المنورة إلى برلين بعزيمة لا تلين في سبيل دعم الحق ومساندة الأمة الإسلامية ونستطيع أن تقرر بكل صدق وموضوعية أن الإمام كان جيشا كاملا في قوته وصلابته ومؤازرته وتوكله على خالقه فليت الأجيال تعرف عنه وعن أمثاله ما بعينها على حفظ بلادها واحلامها، والحمد لله رب العالمين