الكاتب محمد نبيل محمد يكتب : هرطقة “الحدود الآمنة” وشرعنة الهجمات العدائية.

لم يكن استدعاء الحديث عن الرجال العظام صنّاع نصر”أكتوبر” نوعا من المراثى لهؤلاء الأبطال، فالرجال ـ فقط ـ ترحل ولاتموت ! بل هو مراجعة واجبة لـ “دروس النصر” فمازالت أسراره تتكشف من “أكتوبر المجيد” تلك المعركة التى سبقتها معارك الاستنزاف أو “الألف يوم” والتى أحدثت تغيرا نوعيا فى تكتيكات النصر فى حالتى الهجوم والدفاع بعد اكتشاف تراتبى لحيل العدو أو تكتيكاته التى تدرب عليها واحترفها فكانت مكشوفة لأقصى مدى لرجال أكتوبر مما أفقد العدو مزية هذه التكتيكات بل وحيّدها فى ميدان المعركة أيا كان نوعها، ومن تلك التكتيكات التى أورثنا علمها أبطال أكتوبرهى فرض العدو إرادته لإدارة معاركه خارج حدوده الجغرافية وذلك كمن خلال فرض مفهومه ـ الخاص جداـ عن الحدود الآمنة، فقد فرض المصريون إرادتهم فى إدارة معركة “أكتوبر” وانهوا فكرة “الحدود الآمنة” من جانب العدو الصهيونى فى إتجاه مصر، وتم تنفيذ المهمة المحددة التى صاغها التوجية الاستراتيجى للرئيس السادات وعربت القوات قناة السويس وحطمت خط بارليف وكونت رؤوس كبارى للفرق العابرة على الضفة الشرقية من القناة وتم رفع علم مصر على سيناء إلى استكملت مصر معاركها السياسية ثم القانونية واستعادت كامل تراب سيناء، وحرمت العدو من تطبيق نظريته تجاه مصر،
لكن بالعودة إلى العدو الصهيونى فهى الدولة ـ مجازا ـ الوحيدة العضو بالأمم المتحدة التى ليس لها دستور ينص على حدودها السياسية، بل ليس لها دستور من الأساس (!) مما يُنبىء بحقيقتها العدائية تنجاه جيرانها العرب، ومن منطلق مبادىء تأسيس الكيان التى شارك فى صياغته الرموز الأوائل ومنهم “ديفيد بن جوريون” رئيس الوزراء الصهيونى الأول وهو من أسس لنظرية الأمن القومى للصهاينة والذى بُنى على مبدأين مركزيين؛ هما: جيش الشعب، والثالوث الأمنى؛ إذ يتحقق الأول من خلال فرض التجنيد الإجبارى على جميع الإسرائيليين كجنود احتياط، فيما تأسس الثانى على ثلاثة أسس؛ هى: الردع، والإنذار، والحسم، ويتحقق الردع بشن هجمات انتقامية مدمرة تستهدف الخصم، مما سيردعه عن مهاجمة إسرائيل تجنبًا لرد فعلها، فيما يتحقق الإنذار المبكر بإيجاد قوة استخبارية متفوقة يمكنها التنبؤ بنوايا الخصم وإحباط خططه قبل أن يقدم على تنفيذها، فيما يتحقق الحسم بتقصير مدة الاشتباك من خلال توجيه ضربة قوية وحاسمة للعدو.
كما كان تصريح رئيسة وزراء (الكيان الصهيونى) جولدا مائير 1971 “إن الحدود الدولية لإسرائيل تتحدد حيث يتوطن اليهود”، وكذلك فنّد مشروع رئيس وزراء (الصهاينة) مناحيم بيجن عن الضفة الغربية فى فلسطين الذى أعلنه فى 28/12/1977 والذى يؤدى إلى ضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كامل الأرض المحتلة، يرسمان صورة أقرب لحقيقة مفهوم قادة الصهاينة عن الحدود الآمنة، وبخاصة بعد أن أبلغ بيجن الولايات المتحدة الأمريكية فى 1978 أن القرار 242 لا ينطبق على الضفة الغربية، على أساس أنها أراض “محررة” لا “محتلة”… وهنا الهرطقة بعينها، فلم تحدد دولة الاحتلال حدودها بل كان اعتراف الأمم المتحدة بها مؤسسا على قبولها بقرار التقسيم، أو قرارتقسيم أراضى فلسطين ـ العربية التاريخية ـ والذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29/11/1947 وتضمن رسماً واضحاً لحدود الدولتين المقترحتين، وهما (العربية واليهودية) أى أن منظمة الأمم المتحدة لم تعبر قط عن قبولها لأية حدود (لإسرائيل) غير الحدود اليهودية المرسومة على خريطة ملحقة بقرار التقسيم، وقد قُبلت (إسرائيل) عام 1949 عضوا في الأمم المتحدة على أساس إعلانها الاستعداد لتنفيذ قرار التقسيم.
ثم جاء القرار 242 فلم يرسم حدوداً جديدة واضحة، وإنما أكد حق كل دولة فى منطقة الشرق الأوسط “فى أن تعيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها حرة من أعمال القوة أو التهديد بها”، وادعت (إسرائيل) الهرطقة بأن القرار 242 يعنى – من بين ما يعنيه – انسحاب القوات الإسرائيلية من أجزاء من الأراضى التي احتلتها فى عدوان 1967 لا منها جميعاً، رغم أن النص النجليزى للقرار ومثيله الفرنسى والروسى والصينى والاسبانى وتلك اللغات الرسمية المعترف بها للوثائق الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة، تلك النصوص المتطابقة المعنى أوضحت بجلاء لا يشوبه تحريف ولا يحتمل التأويل أو التفسير ـ الزائد ـ وجميع اللغات اتفقت على :انسحاب اسرائيل من الأراضى التى احتلتها عقب عدوان الخامس من يونييه 1967 لكن العقيدة الصهيونية تتخذ المراوغة أهم آلياتها فى تنفيذ ادعاءها الباطل.
ومنذ صدور القرار 242 حتى الآن صاغت العسكرية الصهيونية مرتكزات الحدود الآمنة على ثلاث نقاط: أولها أن الحدود الآمنة ليست أبداً خطوط ما قبل 5/6/1967 وثانيها أن الانسحاب من أى جزء من الأراضى المحتلة لا يمكن أن يتم قبل الاتفاق على الحدود النهائية الآمنة بين (إسرائيل) وجاراتها، وثالثها أن البحث فى الحدود الآمنة هو البحث فى أمن (إسرائيل) وسلامتها وحدودها، دون الأخذ بعين الاعتبار متطلبات الأمن وشروط السلامة للدول الجارة لها، لذا صاغ الفكر الصهيونى مشروعات تعرف بالـ ”الحدود الآمنة” و”الحدود الرادعة” و”الحدود التي يمكن الدفاع عنها”، ولم تنسحب اسرائيل من الأراضى التى احتلتها فى الجولان بسوريا ولا من جنوب لبنان ولا من الضفة وغزة بل انسحبت من سيناء (بالقوة) وبالقوة فقط تتغير الحدود أو تبقى كما هى ، وليس السادس من أكتوبر ببعيد (!).