محمد يوسف العزيزي يكتب : الكيان الصهيوني بين هاجس الأمن وصناعة العدو !

منذ اللحظة الأولى لتأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، ارتبط وجوده بفكرة الخوف الدائم من الفناء. لم يكن الأمن مجرد سياسة أو خيار استراتيجي، بل تحول إلى عقيدة أساسية تُحرك كل تفاصيل الدولة العبرية، بدءًا من هويتها العسكرية وحتى توجهاتها الدبلوماسية !
هذه العقيدة جعلت إسرائيل تعيش حالة قلق دائم، وتسعى دومًا لتطويق نفسها بحزام من الضمانات والتحالفات، وكأنها تدرك أن وجودها قائم على معادلة هشة لا تصمد طويلًا أمام التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا.
هاجس الأمن هذا ظهر مبكرًا في كل محطات الصراع.. حرب 1948 جاءت في ظل خوف من “الطرد إلى البحر”، ثم توسعت إسرائيل عام 1967 لتُؤمّن حدودها على حساب دول الطوق، قبل أن تتلقى صدمة قاسية في حرب أكتوبر 1973 حين تهاوت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. حتى الانتفاضات الفلسطينية في الداخل كانت جرس إنذار بأن التفوق العسكري لا يعني بالضرورة الأمن الحقيقي !
لذلك ظل الأمن هو العدسة التي تنظر من خلالها إسرائيل إلى محيطها، سواء في معاركها العسكرية أو في صفقات السلام البارد التي عقدتها
لكن العقيدة الأمنية لم تتوقف عند حدود الدفاع عن النفس، بل امتدت إلى “صناعة العدو ” فوجود تهديد دائم – حقيقي أو وهمي – هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تضم خليطًا من الأجناس والثقافات.
هذا “العدو” ضروري أيضًا لتبرير الدعم الدولي، خصوصًا من الولايات المتحدة والغرب، الذين يجدون في “إسرائيل المحاصَرة” ذريعة لإمدادها بالمال والسلاح بلا حدود ، ومن المثير أن العدو ليس ثابتًا: مرة هو العرب جميعًا، ومرة حركات المقاومة كحماس وحزب الله، ومرة أخرى إيران بخطرها النووي المزعوم حتي وإن ابتعد العدو آلاف الكيلومترات
ولأن الأمن في نظر إسرائيل لا يتحقق بمواجهة مباشرة فقط، فقد اعتمدت استراتيجية “الطوق النظيف”. والتي تعني ببساطة أن يحيط الكيان نفسه بدول غير معادية، بل ويفضل أن تكون صديقة أو منشغلة بأزماتها الداخلية !
وقد كانت اتفاقيات السلام الرسمي البارد مع مصر والأردن اللبنة الأولى، ثم جاءت موجة التطبيع مع بعض الدول العربية لتعزز هذا الطوق، إضافة إلى محاولات إسرائيلية مستمرة للتوغل في إفريقيا وبناء تحالفات عابرة للإقليم الهدف النهائي منها واضح: خلق بيئة إقليمية تجعل العدو بعيدًا قدر الإمكان، وتسمح لإسرائيل بالتحرك بأمان !
ومع تغير موازين القوى، انتقلت إسرائيل من مرحلة “التوسع الأرضي” إلى مرحلة “ السيطرة النوعية ” !
في العقود الأولى، كان همّها الأكبر هو الاستيلاء على الأرض وتكثيف الاستيطان في سيناء والجولان والضفة وغزة. أما اليوم فقد صار طموحها أوسع: الهيمنة عبر التكنولوجيا، السيطرة على الموارد المائية، النفاذ إلى الأسواق الإقليمية، والتأثير في السياسات الدولية ، وهنا يبرز التساؤل : هل السيطرة الناعمة أخطر من الاحتلال العسكري المباشر؟
في النهاية تبدو إسرائيل وكأنها تركض خلف سراب الأمن المطلق .. فهي تدرك أن التفوق العسكري قد يضمن لها انتصارًا في معركة ، لكنه لا يضمن لها البقاء طويلًا وسط محيط عربي إسلامي واسع . وصناعة العدو التي تلجأ إليها باستمرار قد تكون لعبة خطرة، لأنها لا تولد سوى المزيد من المقاومة ، وربما تُشعل حرائق يصعب السيطرة عليها !المنطقة ليست لوحة شطرنج بيد صانع القرار الإسرائيلي، بل هي فضاء حي لشعوب تعرف كيف تدافع عن حقوقها وتكتب تاريخها.
وما بين هاجس الأمن وصناعة العدو، ستظل إسرائيل أسيرة خوفها، بينما تبقى المقاومة – بكل صورها – شاهدًا على أن الأمن الحقيقي لا يُشترى بالقوة، ولا يُفرض بالهيمنة، بل يُصنع بالعدل والسلام .
المقال القادم نجيب عن السؤال : هل السيطرة الناعمة للكيان الصهيوني أخطر من الاحتلال العسكري المباشر ؟ !