” صابر عبدالدايم ” إنسانًا وسراجًا
دراسة بقلم أ. د صبري فوزي أبوحسين (أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات بجامعة الأزهر)
في حياتي مجموعة من البشر النبلاء الأصفياء الكبار نفسًا وقلبًا وعقلاً وإبداعًا، وكانوا سببًا مباشرًا في بناء شخصيتي وشخصية أترابي وتنويرها وتطويرها، أذكر منهم الأساتذة: عبدالحليم عويس المؤرخ والمفكر الإسلامي الكبير، ومحمد عبدالمنعم عبدالكريم الملقب بـ(العربي) والمبدع المسرحي البارز، وحسن أحمد الكبير القائد الفذ، والسيد الديب الوالد والمربي، وكاظم الظواهري المثقف والمكرم والمعلم، والسيد مرسي أبو ذكري، ومحمود علي السمان، وصفوت زيد، ومحمود عباس الداعية الضُّلَعة، والأحبة الأحياء: زهران جبر، ونوال مهنى، والنبوي شعلان، ونشأت المصري، الذي يعطيني التاريخ الحقيقي لأبرز المثقفين في القرن العشرين…، وغيرهم من السادة الأماجد النبلاء الملهمين.
ومن أكثرهم تأثيرًا في شخصيتي أستاذنا العلامة صابر عبدالدايم يونس صبح (١٩٤٨-٢٠٢٥م) الذي رزقت عشرته أكثر من خمس وعشرين سنة، منذ سنة ١٩٩٨م،حيث عينت في كليته، التي كان أحد مؤسسيها، والتي عُرفت به وعُرف بها: كلية اللغة العربية بالزقازيق، فكانت جلساتي الكثيرة معه منفردا في مكتبه، أو وسط اجتماعات علمية متنوعة بين مجالس أقسام أو ندوات أو مؤتمرات أو مناقشات علمية، كما شرفت بقراءة مجمل آثاره العلمية والأدبية وكتبت عند أديبًا، وكتبت عنه مؤلفًا، وكتبت عنه ناقدًا، وناقشت رسالتين للعالمية عن شعره ثم عن نقده الأدبي. وأهم بعدين في شخصية ذلكم النبيل هما الإنسانية السامية، والقدرة التثقيفية العالية الواسعة الانتشار، وهذا ما أصوغه في مقالي هذا تحت عنوانين متصلين، متدرجين: صابرنا الإنسان، وصابرنا السراج.
صابر عبدالدايم الإنسان
صابر عبدالدايم منذ عرفته حتى سنة وفاته إنسان نبيل: ذو قلب صاف، وعقل كبير، إلف، مألوف، متواضع، مقبل على الناس، كبيرهم وصغيرهم، عاميهم، ومثقفهم، يقبل الجميع على اختلاف مشاربهم وأطيافهم، لا يَنفر، ولا يُنفر منه، لا يعزل، ولا يَنعزل ولا يُعزل، لا يُقصَى، ولا يُقصِي، لا يغضب، ولا يثور، ولا ينفعل الانفال الضار، ولا يتنمر، ولا يغتاب، ولا يستمع إلى نميمة ولا يتأثر بدسائس! يتعامل مع خصومه بأدب وإنسانية واحترام وتقدير. وهو المهذب جدا مع الجنس اللطيف لم أر له مرة نظرة سيئة ولم اسمع منه لفظة خادشة أو تعبيرًا خارجًا، إنه قمة في الأدب الإسلامي الواقعي السلوكي، كما هو قمة في الأدب الإسلامي اللسان والقلمي، جمع بين أدب النفس وأدب الدرس وأدب الحياة بدقة وكمال وتمام يغبط عليه، إنه يمثل لي الأب بعد أبي، ولما علمت خبر وفاته صرخت: مات أبي، ولا أب لي بعده، رحمه الله، عاشرته طول عمري معه فكان المعلم والمربي والباني والهادي والفاتح والمهدي والمصلح، والأستاذ المفتاح: يفتح لي أفكارا بحثية، ويمدني بمراجع نادرة، ويرشدني على مراجع خاصة جدًّا في كل قضية أتناولها.
ومن شعارات أستاذنا المعلمة للأجيال القادمة أنه كان يردد أمامنا دائمًا: (الحركة هي الحياة، والسكون هو الموت)، وأظنه كان المثال الأكبر والأبرز في تحقيق هذه المقولة في واقع الحياة الثقافية، ففي الوقت الذي التزم فيه رفاقه وأترابه بيوتهم، وأغلقوا على أنفسهم منتظرين لحظة الرحيل، مكتفين بما صنعوه حتى عمر الستين، ظل أستاذنا حتى شهره الأخير في الحياة يُبدع ويُنتج ويُعمِّر ويُنوِّر، لم يتقوقع، ولم يخف على صحته، ولم يلزم بيته ومقر راحته، ظل يكتب، ويحاضر ويناقش ويعمر، وكلما هاتفته أو هاتفني كان همه العمل، وهمه الإنتاج، وهمه الحضور، وهمه الفاعلية والتأثير، ويخطط للمستقبل فيما يخص رابطته وجامعته وتخصصه!
ولعل من أفضل ما يدل على ذلك أنني صحبته يوما كاملا من صبحه حتى ليله، بعد بلوغه السبعين، أدى فيه محاضرة بالكلية، ثم جلس في اجتماع مجلس للقسم، ثم قاد بنا السيارة إلى القاهرة، فذهبنا إلى مقر الجامعة بمدينة نصر، وأنجز بعض الأوراق، ثم ذهبنا إلى ندوة أو محفل لوزارة الأوقاف، ثم ذهبنا إلى مقر رابطة الأدب الإسلامي بعد العشاء، لنحضر إحدى ندواتها، وفي كل هذه التجمعات كان أستاذنا المرجع، وكان الحاضر، وكان المتكلم، وكان الموجه، وكان المؤثر والقائد رحمه الله.
إنه يتميز عن معظم الأزهريين بأنه كان المستنير المنفتح، إنه (أستاذ الجيل)، و(رائد مدرسة)، و(عميد الإبداع)، و(راعي المبدعين)، و(أستاذ الأساتيذ)، وليس في ذلك مبالغة: كم خرج من عباءته شعراء، وكم خرج من عباءته قصاص، وكم خرج من عباءته مسرحيون ومسرحيات، وكم خرج من عباءته نقاد، وكم خرج من عباءته باحثون وباحثات، وكم خرج من عباءته دعاة ووعظ وإعلاميون وإعلاميات! ما عرفنا كبار أدبا عصرنا الحديث إلا عن طريقه: محمود حسن إسماعيل، فاروق شوشة، محمد جبريل، محمد التهامي، نجيب الكيلاني، أحمد سويلم، الحسن الأمراني، أبوالحسن الندوي، وغيرهم!
وعن طريقه عرفنا الفنون الأدبية الحديثة والمعاصرة: المسرح، المقال، القصة القصيرة، الرواية، أدب الأطفال، الأدب الصوفي، الشعر الحر، الشعر المرسل، القصة الشاعرة…إلخ
وصابر عبدالدايم هو الحاضر دائما بقلمه ولسانه في كل حدث جلل لوطننا أو عروبتنا أو أمتنا الإسلامية، حضور بوعي، وحضور بهدوء، وهدوء بنبل، لا يواري، ولا يداري، ولا ينافق، ولا يطبل، مع الحق حيث كان وحيث دار، ومع الحقيقة حيث تكون، ولو أنه دارى أو نافق أو طبل لنال أعلى المناصب!
و”كاريزما” صابر عبدالدايم رزق إلهي طيب، حيث تجد له القبول دائمًا في كل محفل ومجمع، ما حضر منتدى أو ملتقى إلا كان كبيره وما جلس جلسة لدراسة مشكلة إلا كان المرجع في حلها، والفيصل في الخلاص من أضرارها، ومواجهة تحدياتها!
و”صابر عبدالدايم” رجل الخير، ورجل الفتح: كم كان سببًا في تعيين أساتذة، وكم كان سببًا في ترقي أساتذة، وكم كان سببًا في سفر أساتذة إلى الخارج، وكم كان سببًا في توظيف مجتهدين ومجتهدات، وكم فتح المجال أمام الشباب في مجالس الإبداع والثقافة من كليته: كلية اللغة العربية بالزقازيق، و اتحاد الكتاب أو المجلس الأعلى للثقافة أو رابطة الأدب الإسلامي أو مجلة الأزهر أو غير ذلك!
وصابر عبدالدايم يملك جينات الإعلامي المتمكن القدير المؤثر، حضر بلسانه في إذاعة القرآن الكريم، وفي غيرها من الإذاعات، وحضر كذلك في القنوات التلفيزيونية والفضائية واليوتيوبية، وحضر بلسانه في الخطب والمحاضرات والندوات والدروس الدينية، وحضر بقلمه في الكتب والصحف والمجلات عبر مقالات أو حوارات، ولعل إشرافه على دوحة الأدب بمجلة الأزهر في سنيه الأخيرة أكبر دليل على أثره ومكانته!
كل عمره البالغ سبعا وسبعين سنة جهاد في سبيل الكلمة الطيبة والفعل الطيب، وبناء الأجيال، وتطوير المواهب، واستثمار الطاقات، والتعمير والتنوير والتجديد البناء المخلص الواعي الرشيد، وكان داعية إلى ما أسماه( الحداثة الراشدة) ومهاجمًا ما أسماه(الحداثة المنفلتة)!
صابر عبدالدايم السراج:
إن الدكتور صابر عبدالدايم راهب في دنيا الإبداع الأدبي، والجهاد الثقافي، فهو من الكتَّاب الأزهريين الأكاديميين المُمَيَّزين، الداعين إلى الفكرة الإسلامية الأدبية. أولئك المتلهفون إلى تجسيدها في حياة الناس واقعًا عمليًّا، ومنهجًا حاكمًا للناس في كل مجالات الحياة، الباحثون عن منافذ النجاة للإنسان عبر رؤية إسلامية متميزة تصاغ معالمها في قالب فني مؤثر. و شيوع نتاجه التأليفي والإبداعي يدفع قارئه إلى معاودة النظر فيه عرضًا وتقييمًا وتقويمًا…
و يعد كتابه “الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق” من أبرز آثاره في سبيل تحقيق هذه الغاية. إنه كتاب سبَّاق في التأصيل لمفهوم الأدب الإسلامي وبيان خصائصه، وبه آراء نظرية وأحكام تطبيقية، جديرة بالمناقشة والتحليل. وهى آراء وأحكام تثار في هذه الآونة من قبل العلمانيين وأذيالهم في مواجهتهم لمحاولات المخلصين للإسلام والراغبين في جعله مطبقًا في جميع مناحي الحياة الواقعية والفكرية؛ لذا فإن في التعريف بهذا الكتاب وتحليل قضاياه إرشادًا للباحثين، وتوجيهًا لهم إلى كتاب نافع في قضية شائكة لها أنصارها وأعداؤها، هي قضية أسلمة الأدب. فهذا البحث يأتي ضمن سلسلة منظومة من مؤلفات وإبداعات أزهرية أكاديمية تتغيا جاهدةً تفعيل الرؤية الإسلامية النبيلة التي لا حل ولا إنقاذ لأدب الأمة ـ الآن ـ إلا بها. وهذه المنظومة تحتاج إلى وقفات بحثية راصدة ومحللة، لعل هذا البحث يكون باكورةً فيها… ولعل مطالعة الإهداء الذي صاغه الدكتور صابر ـ وهو المسلم المتحضر الإنسان ـلكتابه(الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق) يدل على ذلك، إذ جاء نصه: “إلى أصحاب الرؤى الإبداعية الدائرة في فلك التصور الإسلام ي، وإلى الوطن الإسلامي الكبير، وهو على أبواب مدائن الفجر”. أرأيت ـ قارئي ـ مدى الحب الكبير الممتد، والإخلاص الطاهر، والتفاؤل الثابت، والإقدام الطموح، تجاه العقيدة والإنسان والمكان. إنه كلم طيب لا يصدر إلا من نفس مؤمنة طيبة حية فاعلة . نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا. ناهيك عن التعبير البديع المصور الموحي في قوله: “فلك التصور، الوطن الإسلامي، مدائن الفجر”…
إن الدكتور صابر واحد من أبناء الأزهر الشريف الذين أفادوا من الأزهر أصالة، وأضافوا إليه حيويةً وتجديدًا، إنه مبدع باحث مفكر، جمع بين الثقافة الواسعة، والرؤية الثاقبة في ميدان اللغة العربية وآدابها. ومن يقرأ سيرته الذاتية يقف على حضوره الفعَّال في المشهد الإعلامي والثقافي المعاصر، فهو عضو مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر، ومقرر لجنة فروع الاتحاد بالمحافظات، وعضو لجنة الشعر بهذا الاتحاد، وعضو مجلس تحرير مجلة الثقافة الجديدة بمصر، وشارك في عدد من مؤتمرات أدباء مصر في الأقاليم، وفى مهرجان الهيئة العامة للكتاب، وفى مؤتمرات الجنادرية بالسعودية، ومؤتمرات رابطة الأدب الإسلامي العالمية، إضافة إلى إسهامه العلمي والأدبي في العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية، ونشره نتاجه الإبداعي والنقدي في كثير من الجرائد والمجلات المصرية والعربية، واختياره للتحكيم في كثير من الرسائل الجامعية، والمسابقات الأدبية في فنون الأدب المتنوعة، على النحو الذي يعرفه كل معاصري المؤلف ودارسي إبداعه وناقديه. أدام الله للأزهر هذه الإيجابية البناءة في هذا العصر المُبتَلى بكثير من التيارات المنحرفة غير الجادة، وأعانه على أن يكون درعًا حصينًا لتيار الأصالة في مواجهة التمرد والتخريب.
*له آثار متنوعة المضمون والاتجاهات على النهج التالي:
– إبداعات شعرية:
له سبعة دواوين شعرية، هي:”المسافر في سنبلات الزمن” سنة 1982م، و”الحلم والسفر والتحول” سنة 1983م، و”المرايا وزهرة النار” سنة 1988م، و”العاشق والنهر” سنة 1994م، و”مدائن الفجر” نشر رابطة الأدب الإسلامي سنة 1994م، و”العمر والريح” سنة 2..8م. وله مسرحية مخطوطة بعنوان النبوءة”، إضافة إلى قصيدة مطولة مطبوعة بعنوان “القبو الزجاجي” سنة 2..3م.
– مؤلفات أكاديمية متخصصة:
وتتمثل في: “مقالات وبحوث في الأدب المعاصر” سنة 1982م، و”محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة” سنة 1984م، و”التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث” سنة 1989م، و”الأدب المقارن” سنة 199.م، و”موسيقى الشعر العربي بين الثبات والتطور” سنة 1992م، و”أدب المهجر” سنة 1993م، و”شعراء وتجارب: نحو منهج تكاملي في النقد التطبيقي” سنة 1999م، و”الأدب العربي المعاصر بين التقليد والتجديد” سنة 2…م، و”فن المقالة” سنة 2..1م، و”مناهج البحث بين القدامى والمحدثين” سنة 2..8م.
– مؤلفات إسلامية التوجه:
وتتمثل في: الأدب الصوفي: اتجاهاته وخصائصه سنة 1984م، و”من القيم الإسلامية في الأدب العربي” سنة 1988م، و”تاج المدائح النبوية: رؤية نقدية معاصرة” سنة 1994م، و”الحديث النبوي رؤية فنية جمالية” سنة 1999م، و”جماليات النص الأدبي في ضوء القيم الإسلام ية” سنة2..7م، و”ديوان الإمام محمد متولي الشعراوي” سنة 2..9م…. و كتبه وإبداعاته الأدبية ذات أثر وفعالية في ميدان أسلمة الأدب، وقد نالت شهرة واسعة، وأحدثت صدًى بارزًا في الخطاب الأدبي والنقدي والثقافي المعاصر.
بعد حمد الله تعالى على توفيقه قرر المؤلف أن دافعه على تأليف هذا الكتاب راجع إلى انتمائه إلى عقيدة الإسلام، وتشرفه بالانتماء إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ودراسته برحاب الأزهر المعمور. وتأكيده على ذلك مرده في نظري إلى إحساسه بالمسئولية والواجب الملقى على عاتقه بوصفه شاعرًا موهوبًا يسخر فنه في الحق والخير والجمال، وهذه أهداف نبيلة للأدب الإسلامي وغيره…
ومن منهجيته تقريره أنه لم يتعصب لشكل شعري محدد، فرؤية الشاعر المسلم تنطلق محلقة لا تحدها أسوار الشكل، وإنما يكون الالتزام في إطار المضمون الهادف، والنبض الإسلامي المؤثر في واقع الحياة، وفى مستقبل الإنسان. كما أنه لم يحصر نفسه في إطار زمني محدد؛ لأن دراساته ليست تاريخية أدبية، ولكنها دراسات تعالج قضية ما زالت في حاجة إلى التحليل والمناقشة والتنقيب، ولبُّ هذه القضية هو النص الأدبي الناطق بأبعاد الرؤية الإسلامية. وفى ذلك ردٌّ غير مباشر من المؤلف على من يأخذ عليه عدم تطبيق تنظيره على نصوص تراثية. كما يرى أن الأدب الإسلامي أدب مضمون وشكل معًا ” فليس هناك ـ في رأيه ـ موضوع يحظر على الأديب الإسلامي أن يتناوله في قصيدة أو قصة أو مسرحية . وإنما الشرط الوحيد الذي يجعل المضمون إسلاميًّا هو أن ينطلق الأديب من التصور الإسلامي السليم للكون والحياة والإنسان … ليست إسلامية المضمون تشفع للأديب المسلم أن يقصر في جمالية الشكل ولا في التجويد الفني، فذلك مما يزري بالأديب الإسلامي ويضره، ويكون حجة عليه في يد خصومه، بل إن الأديب المسلم مدعوٌّ أكثر من غيره إلى أن يبلغ قمة الروعة في الأداء الفني حتى يكون أدبه شرارةً توقظ القلوب بحرارة التجربة ولهيب الإبداع، ونورًا يسير على سناه المسلمون ليخرجوا من تيه الضياع”… ويعلل ذلك المؤلف بقوله: “الآفاق الزمانية التي يتحرك في دائرتها الأدب الإسلامي آفاق رحبة تمتد من الحياة الإنسانية الدنيا إلى ما بعد الموت، فتعطي بذلك للأديب مدًى واسعًا يربط زمانيًّا بين الماضي والحاضر والمستقبل ربطًا متساوقًا. أما الحدود المكانية فإن منهج الإسلام الفكري قد أعطى الأديب حرية في حركته المكانية التي تمتد إلى آفاق إنسانية أوسع”.
كما قرر الدكتور صابر أن الأدب الإسلامي متفتح على شتى المذاهب الفنية، ما دامت منسجمة في اتجاهها وتفاصيلها مع حركة الكون والإنسان والإيجابية في سبيل الحق والعدل الأزليين، وفى إطار الجمال المبدع بعيدا عن التزييف والكذب والتناقض. وانطلاقًا من هذه الرؤية فإن الأدب الإسلامي يأبى الانحراف الذي تتبناه بعض المذاهب الأدبية والفكرية في كثير من توجيهاتها وتصوراتها . وأخذ يوضح مظاهر الانحراف في الكلاسيكية والرومانسية والواقعية… وغيرها من التيارات الوافدة. فعلى الأديب المسلم أن يتعرف ركام التيه الضال الذي يشيع في هذه المذاهب، لكي يصفى وينتقى ويحلل ويفحص ما يقدم إليه، فالذي يعرف جاهلية الأدب الغربي يدرك كيفية إبداع أدب إسلامي نقي متوافق مع الفطرة الإنسانية.
إن عقل صابر عبدالدايم في مجمله يقوم على دعوة إلى تصحيح مسار الأدب في المجتمع الإسلامي، وتحقيق الانسجام بين عقل الأمة وعاطفتها، وبين فكرها وشعورها، وبين أدبها وعقيدتها، وهو يحاول دائمًا في كتاباته وخطاباته إثبات أن نظرية الأدب الإسلامي تنأى عن الجفاف وعدم التحليق، من خلال تطبيق المقاييس النقدية الأصيلة على نماذج الأدب الإسلامي المتنوعة: زمانًا، ومكانًا، وإنسانًا، وفكرًا، وتشمل الله، والكون، والأحياء، في إطار المنهج الإسلامي الأزهري الوسطي المستنير المنفتح.
والدكتور صابر عبدالدايم ينقل عن المعاصرين الأعلام، ويفيدنا من رؤاهم في سبيل إبلاغنا برسالته، فها هو ذا يقرر أن الأدب الإسلامي ضرورة، ويرصد شهادات تدل على ذلك منها قول الدكتور الطاهر مكي: “الإسلام دين شامل له موقف من كل قضايا الحياة، نمت ثقافته .. فنشأ من ذلك أدب إسلامي المحتوى، يأخذ في كل بيئة لونًا، ويكتسب مع كل حضارة زيًّا، ويتشكل في كل عصر بما يلائمه، ودعامته الأولى الصدق بجانبيه: الواقعي والفني. ومن هنا يجيء الأدب الإسلامي الحق قمةً في بابه”، وقول الدكتور عبدالحميد إبراهيم : “الرؤية الإسلامية مطلوبة وضرورية، ويجب أن نجد في الكشف عنها إذا كنا صادقين في التعبير عن شخصية الأمة الإسلام ية؛ لأنه بدون رؤية عربية إسلامية لن تكون لنا شخصية . وغير معقول أن حضارة عريضة مترامية جغرافيًّا وتاريخيًّا لا يمكن أن تكون لها رؤية”. ومسك ختام هذه الشهادات قول فضيلة الشيخ الشعراوى ـ رحمه الله ـ للدكتور صابر- شخصيًّا-: “مقومات الشخصية الإسلامية في الفنون الأدبية تتجلى بوضوح حين نبرز فيها الفضائل ولا نغذي الرذائل … أريد أن يحتفظ الفن بجماله، فلا تجعلوه يورثنا قبحًا. ويقول الشيخ لأدباء الإسلام: لا تكبتوا موهبة الشعر والأدب في نفوسكم، ولا تخافوا أن تُحارَبوا من عشاق الرذيلة، وحاولوا أن ترفهوا جفاء الموعظة بنعومة الأداء، والحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان . والنصح ثقيل فلا ترسله جبلاً ولا تجعله جدلاً”.
رحم الله أستاذنا رحمة وأسعة وأسكنه فسيح جناته. أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، ووالله ما وفيته حقه ولا أستطيع، ففضله علي وعلى جيلي، كبير، وخيره لنا كثير، رضي الله عنه وأرضاه، وبارك في ذريته وأحفاده.
ألقيت هذه الدراسة خلال ندوة تأبين د صابر عبدالدايم
باتحاد كتاب مصر مساء الإثنين الأول من سبتمبر ٢٠٢٥