محمد نبيل محمد يكتب : الأمن الثقافى وحرب المفردات .. مفاوضات الصهاينة و”الهجوم الخداعى”

“نصر أكتوبر”مازال دافئا بالحياة ونابضا بحكايات الأبطال من الآباء الذين حققوا نصرًا “مستدام” فقد تشرفت بأيما شرف عندما كلفنى المفكر الاستراتيجى اللواء سمير فرج منذ أكثر من الثلاثين عاما بمقابلات وحوارات صحفية مع الكثيرين من هؤلاء الأبطال صُنّاع المجد “السرمدى”، من قادة أكتوبر وضباطها وضباط الصف والجنود، وقد نقل هؤلاء “الصناديد” خبرات القتال ضد الأعداء الصهاينة، وما أعظمها من معرفة هى ما تسمى بـ “ثقافة الانتصار” التى تنتقل من عقول ووجدان وأيادى أصحبها “الآباء”لعقول ووجدان وآياد الأبناء، وتقريبا كل من قابلت من هؤلاء اتفقوا فى حَكّيهم عن الصهاينة الأعداء بأمور عديدة منها أنهم “جُبناء” و”نُقّاض عهد” والكثير من الصفات والأحوال، ولكن ما يهمنا فى هذا الموضع ـ تحديدا ـ هو ما اعتاد عليه العدو الصهيونى من تكتيكات الحرب، وهى تقسيم أنواع هجماتهم إلى: الهجوم الرئيسى والذى قد يبدو للمراقب بأنه الهجوم الحقيقى من حيث العدد والعتاد والتوقع على سبيل المثال، ثم الهجوم الثانوى وهو الذى يبدو بكونه ضعيفا وغير مؤثر، وثالثا هو الهجوم الخداعى، والذى يبدو وكأنه إلهاء عن إتجاه ونوايا وقوة الهجوم الحقيقى، ومن خلال هذا التكتيك الذى احترفه العدو الصهيونى، والذى لا يكشف عن حقيقة الهجوم الحقيقى ونواياه واتجاهه ومدى تأثيره، فلا يعلم الخصم من أين تأتى الضربة الموجعة والقتال الحقيقى، فتضطرب أفراسه وتموج قدراته وتتشتت قرارات القتال، لكن المصريون هم من فطنوا لهذا التكتيك، بل وتبينوا نوايا القتال الحقيقى من الوهمى، ففى كل معركة من معارك “أكتوبر” كانت الغلبة للمصريين.
ويبدو أن مقتضى الحال الآن يشى بجلاء عن تكتيكات العدو الصهيونى المعتادة، ونحن المصريون كما ورثنا النصر من آبائنا صُنّاعه، كذلك تعلمنا منهم “إحترافه” ويبدو أن المفاوضات التى تبدأ ثم تتعثر ثم تتوقف، وتتبدل فيها أدوار الطرح والرفض بين الجانبين الصهيونى والحمساوى، حتى أنه من العبث “الفج” أن نرى ذات الطرح فى موضوع المفاوضات يطرحه الصهاينة ويرفضه الحمساويين، ثم تتجمد المواقف، ويسيل الدم الفلسطينى نهرا متجددا، ثم تعود المفاوضات بالطرح ذاته فيعرضه الحمساويون ويرفضه الصهاية، فتتوقف من جديد المفاوضات، ويسيل نهرا جديدا من الدم الفلسطينى، ومع تبادل الأدوار على المسرح “الغزاوى” تصب كل أنهار الدم فى بحر واحد، عنوانه ” يبقى الوضع كما هو عليه”…
وينشغل الرأى العام الإقليمى والعالمى بالفرجة على هذه المسرحية الهزلية (!)التى يتقاسم فيها أدوار البطولة الحمساويون والصهاينة (الأعداء) لكن مع إعلان الأمم المتحدة ـ صراحة ـ بأن غزة أصبحت على شفا الموت جوعا، وهنا قد يبدو أن هذه المفاوضات من عظيم أثرها هى: المعركة الحقيقية، وأن هدفها هو إبادة أهل غزة ، ويكثر الحديث بين منصات وسائل الإعلام عن ما يسمى “التطهير العرقى” و”مجاعة الإبادة” وغيرهما من المصطلحات التى لا غرض منها سوى تشتيت الانتباه عن الهدف الحقيقى، والذى قد يبدو أنه فى تهجير الغزاويين خارج أرضهم “التاريخية” وهنا تبرق معركة ثانية والتى تستحوذ على قدر عظيم من الانتباه، وتستهلك مساحة شاسعة من الإهتمام اللإقليمى والعالمى أيضا، حتى تتناول وسائل الإعلام العابرة للقارات أسماء دول من اندونيسيا إلى ليبيا فأثيوبيا وربما أشباه الدول التى لم يعترف بها حتى أهلها (!) كأرض الصومال… ولجميعهم أساببهم السياسية ما بين المهادنة إلى العدائية، ولكن يصحوا الرأى العام العالمى على استحالة ـ عمليا ـ فى تحقيق هذه الحرب لأهدافها المعلنة والمسكوت عنها، فما أصعب من إنفاق المئات من المليارات الدولارية ومعها السنوات الطويلة لتكلفة نقل أكثر من مليونين من الغزاويين، إذا افترضنا ـ جدلًا ـ استسلامهم لحالة التهجير وتلك أيضا فرضية مستحيلة الحدوث… وهنا تلوح فى الأفق معركة ثالثة مع تصديق “الكابينت” على احتلال غزة وتبديل مفردة “الاحتلال”إلى”السيطرة” لتخلى الصهاينة الأعداء عن الالتزامات القانونية التى اقرتها المعاهدات والمواثيق التى صاغتها الأمم المتحدة فى التزام دولة الاحتلال برعاية شعب الدولة المُحتلة، ولأن الصهاينة لايدينون بأية قيم انسانية، ولا يعتقدون بالمبادىء الأخلاقية، ولا يعبئون بالقيم الروحية التى تفرق بين تحضر الانسان وهمجيته(!) ومع اعلان التعبئة داخل الكيان الصهيونى واستدعاء (60) الف من جنود الاحتياط وتجميع (6) فرق عسكرية بأرض غزة التى لا تحتاج ـ عسكريا ـ لهذا العدد الهائل من الجنود والعتاد، وهنا يأتى الدور على درس آخر قدمه لنا الآباء صُناع نصر أكتوبر وهو: أن العدو الصهيونى من عقيدته القتالية لا يحارب داخل أرضه، إنما يفرض على القوات الى يتصدى لها بما يسمى “الحدود الآمنة” وبذلك يخلق العدو معسكرات تجميع لقواته البرية لتكون بمثابة قواعد انطلاق للهجوم على قوات برية “نظامية” حيث أن حرب العصابات التى فرضتها المقاومة على العدو الصهيونى كانت “كر وفر” وهذا ما يوافق عمليات القوات الخاصة لذلك كان رئيس أركان الجيش الصهيونى هرتسى هليفى، وسابقا كان رئيس الاستخبارات العسكرية (آمان) وقبل ذلك قائد الكلية الدولية للقيادة والأركان، وقائد فرقة الجليل العسكرية، وقائد ماتكال وقائدا للواء المظليين، وهو من عناصر المظلات التى تتفق عملياتها مع طبيعة قتال الشوارع، أما الآن وقد أصبح رئيس الأركان ضابط مدرعات فهذا دلالة على أن الصهاينة تخطط لعمليات برية منظمة تتفق وطبيعة رئيس الأركان الجديد إلىّ زامير الذى كان قائد اللواء المدرع السابع وقائد الفرقة 36 وقائد القيادة الجنوبية(!).
ومن هنا يتضح أن المفاوضات ليست المعركة الحقيقية وكذلك ليس التهجير، وكلاهما معارك خداعية وثانوية، وإنما تتكشف نوايا العدو بجلاء بعد إعلان نتن ياهو عن أضغاث أحلامه(!)…ونعود لقادة أكتوبر، كما تحدث إلينا اللواء محمود طلحة أحد أبطال أكتوبر خلال الندوة التثقيفية واحتفال مصر باليوبيل الذهبى لنصر أكتوبر:”مناحم بيجن فى سنة 1968 كان رئيس حزب الكود، وقال مقولة شهيرة جدا: لقد أصبحت سيناء جزءا عضويا من إسرائيل وفيها سأتخذ مرقدى الأبدى، وهو نفسه الذى وقع على اتفاقية السلام سنة 1979″ .. ونكرر ـ بيقين ـ ما قاله القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مصر:”اللى حصل فى أكتوبر 73 ممكن يحصل تانى وتالت…”.