” جسدى فقط” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

أقف هنا على حافة الجليد المعتم ، تستدعيني اسطورة قديمة ، التاريخ خلفى متداخل الفصول ، لا احد سوى صوت الصمت ،
ومن بعيد يتلاشى صوت القطار المغادر بلا اشخاص ، المطر الليلى يخرق سقف الحجرة ، تنشع المياه فى الجدران ، وتشيع فى المكان رائحة عفن الرطوبة ،
النوافذ مسدودة لا ينفذ منها ضوء الشمس ، ولا يتسرب منها الهواء النقى ، الباقى من عمر الانتظار تململ ، يريد ان يغادرنى، يدفعنى ان اتخلى عنه ، يراود روحى عن عالم اخر ، عالم تطير فى سمائه الملائكة ، تعزف لحن الخلود ، لكنى اريد ان يطول ما تبقى من الوقت ، تعودت على الحيرة والقلق ، والسفر بلا وجهة الى اماكن بعيدة وغريبة ، اخشى ان ذهبت ، اذهب للمجهول ،
من سافر قبلى نحو الضفة الاخرى ، لم يعد أبداً ليخبرني ، ها انا فى النافذة الليلة المطلة على شارع ضيق مغروس على جانبيه اشجار الامل ، انتظر فجراً هزيلاً ، لكنى انتظر ، لن انظر للسماء مجدداً نظرة المشتاق ساكتفى بضوء النجوم ونصف ضوء القمر ، حتى ما أتممت الدورة ، واكتملت الدائرة عدت من حيث اتيت ، عدم يحتضن فناءاً .
ظهرت فى السماء بوادر سحابات سبتمبريه ، طلت وانا مستلق على سرير المرض ،
من شباك الحجرة الوحيدة المنعزلة عن الخارج ، انتشرت على الاستحياء رائحة مطر ، سقط القلب عدة مرات ، واصابه العديد من الشروخ المستعصية على الالتئام ، اشار الطبيب بعد الاطلاع على بطاقتى الشخصية الجديدة المعلقة على طرف السرير ببياناتها الجديدة ( اسم المريض ، عمر المريض ، اخر تشخيص للمريض ، نوع المريض ) لكنهم لم يضعوا فى البيانات اشياءاً اخرى تخص قلب المريض ، ولم يلتفتوا الى نوعية الاحزان التى تركت بصامتها على القلب ،
انقبض وجه الطبيب وهو يسأل لماذا تأخرت فى القدوم الينا حتى وصل القلب الى عدم القدرة على الالتئام ، اعاد السؤال بإلحاح وقد عمت نبرة الحزن على الصوت الفاقد الامل فى تحسن الحالة ، لم يعرف الطبيب ان الطريق الى المستشفى كان بعيداً ، والحواجز حوله كثيرة ، وان عدد مرضى القلوب اصبح اكبر من قدرة المستشفيات على استيعابهم ،
عذراً يا سيدى الطبيب هذا زمناً عليلاً ، اصيب فيه الجميع ، هذا ياسيدى وطن مصاب ، مشروخ ،،مثل قلبى تماماً ( ان ان نعترف .. ان الزمان اختلف .. ان الطيب انتهى وان اللبيب احترف ) ،
نافذة الحجرة المشغولة باطقم الاطباء والتمريض واجهزة الافاقة ، تطل على مقابر الجالية اليونانية ، رغم شيوع الموت فى ارجاء المكان ، لكن التماثيل اليونانية بهية المظهر متقنة الصنع ، رخامية بيضاء مصقولة ولامعة ، اضافت بهجة دنيوية على الحياة فى هذا المكان ،
انتشرت الزهور حول اللحود على نحو يؤكد قدرة الحياة على هزيمة الموت ، وبعث البهجة فى هذا المكان الذى يعمه الصمت المطبق ،
من خلف قناع الاكسجين كنت أنظر الى وجوه من حولى ، استقر بداخلى انهم من عالم اخر غير العالم الذى اعيش فيه ، اختفى السلام فى ملامحهم وطغى على اصواتهم شيئاً يشبه النحيب ، تمر ابتسامة طفل فى سقف الحجرة منبعثة من طفل يسير مع امه فى الردهة الخارجية ، اطارد الضحكة المفعمة بالبراءة ، حاولت ان ألحق بها ، دارت عدة دورات حول المصباح المعلق بالسقف ، دُرت خلفها ، محاولاً الامساك بها ، راوغتنى وهربت من النافذة نحو المقابر اليونانية ،
استقرت فوق احد الشواهد شاهقة البياض بجوار فراشة ربيعية ملونة ، تَسّحبْت فى خفة الاثير حتى اصل اليهما ، ثم مددت يدى فجأة للامساك بهما ، لكنى قبضت الهواء ، واكتشف ان الذى يرقد بداخل الحجرة هو جسدى فقط.