أنا الناسك فى محراب هذا الفنان العبقرى ، عرفته منذ ربع القرن تقريبا ، فنان مبدع صاحب رساله ” مجذوب ” بحب هذا البلد ، عنيد ، مقاتل ، ملامحه تنم عن عبقرية غير عادية ، يحدد هدفه بدقة ويصر على الوصول إليه رغم العراقيل والعقبات التى توضع أمامه ، حتى وإن كلفه ذلك الكثير ، هذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التى أكتب فيها عن إنتصار عبدالفتاح المهموم بالتراث والذى بدأ رحلته باحثا في خريطة العالم عن أسرار الثقافات ومعانيها والترحال عبر أبوابها بحثا عن الإنسان والوطن . وكانت فنون مصر التراثية هى مصدر إلهامه ؛ وفخره أن يكون مصريا ،
حملته مصر عبر أصواتها وألحانها وأنغامها عبر نهر النيل في عالم أوسع أفقا وأكثر رحابة . وبدأ الغوص داخل أعماق شخصية مصر التراثية بحثا في حواريها وشوارعها وأقاليمها المختلفة عن تفردها وعبقريتها والتى ظهرت من خلال رصده لكافة أشكال الفنون التراثية التى تزخر بها مصر .
بداية المشوار جاءت مع المهرجان الدولي للمسرح التجريبي في عام 1988م ، عندما أسس المسرح الشعبى ومسرح العربة الشعبية ، والحقيبة ، وفنون القاهرة فى ألف عام ، وهو صاحب تجربة رائدة فى المسرح الصوتي الحركي ” المسرح البوليفونى ” وهى تعد واحدة من التجارب الطليعية التي نحت ملامحها وكون لها مفرداتها الخاصة التي اعتمد فيها على مفردات الايقاع الموسيقي والايقاع الحركي ناحتا في هذا الفراغ المسرحي جملا لا تسمع ولا ترى فقط بل تحيا معها جميع الحواس .
فى عام 1990 م بدأ إنتصار عبدالفتاح فى مشروع قومى طموح يؤكد فيه على إحياء وتفرد الشخصية المصرية ، بدأة من قصر الغورى الفواح بعبق التاريخ ، وإمتد ليشمل ربوع مصر كلها ، عندما كون “فرقة الطبول النوبية “و ” الآلات الشعبية المصرية ” وكان الهدف هو الحفاظ على التراث الغنائي والإيقاعي الذي نبع من نهر النيل لما لهذا التراث من خصوصية فى التفرد والإبداع ؛ بدأه بالطريقة والأسلوب واللكنة النوبية القديمة ، ومن خلال الفرقة أبدي إهتماما خاصا بالبحث عن الجذور الإيقاعية والغنائية ومدى تشابه بعض الطقوس النوبية وصلتها بالطقوس المصرية القديمة . وأصبح للفرقة فلسفة وفكر خاص بعد أن ضم إليها أهم الآلات الموسيقية الشعبية المصرية التى إختارها من أقاليم مصر المختلفة كونها ترمز للشخصية المصرية ، من أجل تقديم بانوراما كاملة تعبر عن ثراء شخصية مصر التراثية .
بعد النجاح الذى يفوق الخيال الذى حقتته ” فرقة الطبول النوبية ” وقد شاركت في المحافل والمهرجانات الدولية ، ونالت العديد من الجوائز الدولية وشهادات التقدير . جاءته فكرة الولوج إلى رحاب أوسع وهو ” حوار الطبول من أجل السلام ” .
وفى عام 2013 م ولذلك تقدم بفكرة عبقرية إلي الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة في ذلك الوقت ؛ وهى إقامة مهرجان دولي للطبول والفنون التراثية للحفاظ على الهوية الثقافية والفنية والتراثية المصرية بعمقها الثقافي والحضاري ، لمواجهة فكر الأخوان المتطرف ومحاولتهم طمس معالم الشخصية المصرية . ولقيت الفكرة قبولا ، وإنطلقت فعاليات الدورة الأولى لهذا المهرجان من 19 إبريل إلي 25 إبريل 2013 وأرجو أن لاتمر على هذا التاريخ مرور الكرام ، لأنها كانت فترة من أحلك الفترات التى مرت بها مصر ، وكانت تشدها شدا إلى عصور الضبابية والظلام وطمس الهوية المصرية ، وبإعتقادى أن إنتصار عبدالفتاح لو لم يقدم سوى هذا المهرجان فقط لكفى بها نعمة .
إنتصار عبدالفتاح أرسل إلى العالم أجمع رسالة من خلال “المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية ” أن مصر هى بلد الأمن والأمان ، كما قال الله تعالى عنها ” ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ” فى فترة كما ذكرت كانت من أحلك الفترات التى مرت بها مصر ، ” حوار الطبول من أجل السلام ” هو شعار المهرجان الذى حظى بمشاركة عربية ودولية واسعة ، وفى دوراته اللاحقة حظى برعاية مجلس الوزراء ، وإنطلقت فعالياته فى شارع المعز وعلى مسرح بئر يوسف فى قلعة صلاح الدين الأيوبى وساحة الهناجر بالأوبرا وممر بهلر بوسط البلد وميدان روكسى فى مصر الجديدة وبيت السنارى بالسيدة زينب ومسرح السور الشمالى بالقاهرة التاريخية وقبه الغورى وحديقة الحرية وقصر الأمير طاز
الأثرى ومركز طلعت حرب الثقافى فى حى زينهم والحديقة الثقافية بالسيدة زينب وقصر ثقافة بنها وبهتيم .
ورغم النجاح تأتى المحن ، والمحنة هذه المرة هى قرار الدكتور آحمد فؤاد هنو ” وزير الثقافة ” الأستاذ الجامعي الأكاديمى المتخصص في الجرافيك وفن الرسوم المتحركة لـ يلغى وبجرة قلم دورة المهرجان هذا العام بحجة عدم وجود الدعم المالى لإقامته ، وهنا يحضرنى قول للمتنبى “وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء” وهو ويصف حال مصر في عصره بوجود الكثير من الأمور المضحكة ، ولكنها في الوقت ذاته تبعث على البكاء أو الحزن .. ولاتعليق !!
ولم تكن هذه المحنة هى الأولى من سلسلة الإحباطات التى يتعرض لها الفنان إنتصار عبدالفتاح ، وإنما سبقتها محنة كانت أشد قسوة وضراوة عندما إنتزع منه مشروع ملتقى الأديان العالمى بسانت كاترين وشعاره ” هنا .. نصلى معا ” بعد أن قدم ثلاث دورات منه فى سانت كاترين ، ولا أود أن أطيل فى النجاح الذى حققته تلك الدورات ، ولكن لأن تصريحات إنتصار عبدالفتاح لم تأتى على هوى السيد المحافظ ولا السيد وزير الأوقاف وقتها ، أبعد عن المشروع تماما ، وقدمت دورته اللاحقة فى صورة أقرب إلى المسخ ، والطريف أنه لم يستسلم بل أكمل مشروعه الفنى ملتقى الأديان ” هنا .. نصلى معا ” فى دوراته اللاحقة فى مجمع الأديان بمصر القديمة ، وحققت أيضا نجاحا منقطع النظير .
وهنا أهيب بالمسئولين فى الدولة المصرية أرجوكم أن تسندوا حفل إفتتاح ” مشروع التجلى الأعظم ” فى دير سانت كاترين إلى هذا الفنان العبقرى ، لأنه ببساطة يقوم بتوظيف المكان والجمهور مع العمل الفنى الذى يقدمة وهو الأجدر والأكفأ على إقامة كفل يليق بإسم مصر ، لانه يجيد سينوغرافيا العرض فى الأماكن الأثرية وسبق له أن قدم ” راهب الأحجار ” بالأقصر ، وغيرها من الأعامال الإبداعية التى حققت نجاحات منقطع النظير .
بقى أن اشير إلى أن إنتصار عبدالفتاح هو صاحب ومؤسس فرقة سماع للإنشاد الصوفي التي ضم إليها فرقا أخري للترانيم الكنسية والقبطية والإنشاد الإندونيسي ، وفرقا تمثل ثقافات الشعوب المختلفة ، عرفت بإسم ” رسالة سلام ” لـ يؤكد من خلالها على سلام الله على الإنسان فى كل مكان ، ويرسل من خلالها رسالة سلام من قلب القاهرة التاريخية إلى العالم ، وبهذة الفرقة لخص الفنان إنتصار عبد الفتاح مشواره الفني الذي تجاوز الـ 30 عاما ليكون الفن والموسيقى نقاطا للحوار ووسيلة للتقارب بين الشعوب .
وهو صاحب ” ليالى المقامات الروحية ” . ومن خلال سعيه الدائم للخروج من نطاق المسرح التقليدي ، قدم عرض ” الخروج إلي النهار ـ وأطياف المولولية ــ كما قدم ( مخدة الكحـــــــــل ــ صبايا مخدة الكحل ــ طقوس السمو ـ ترنيمـــــــــــة ـ كونشرتو وسوناتا ــ سيمفونيــــة الملك ليـــــــــر ــ طبول فاوست.. وغيرها من الاعمال المسرحية ) . والحقيقة أن اعماله المسرحية تؤكد على كونه مخرج مسرحى متمكن من أدواته الإبداعية ، خاصة وأنه صاحب تجربة فريدة في المسرح المعاصر من خلال تجاربه ومنهجه الخاص فى مفهوم المسرح الصوتى والمسرح البوليفونى ” المتعدد الصور والمستويات ” ، وتميزت أعماله المسرحية أنها تجبرك فى كل عرض على الدخول فى حالة روحانية تظل معك لفترة طويلة حتى بعد إنتهاء العرض ، كما إشتهر بإهتمامه بالتراث وتوظيفه الفني للطقوس الصوفية ، وله تجربة فريدة في توظيف الأصوات دراميا فيما سماه ( المسرح الصوتي )
الحديث عن هذا الفنان المبدع قد يطول ، والخلاصة أن ماقدمه الفنان إنتصار عبدالفتاح من مهرجانات طافت شوارع المحروسة فى أحلك الأوقات ، قد تركت إنطباعا لدى العالم أن مصر بلد الأمن والأمان ، وأن الدوله لو أنفقت الملايين لما وصلت إلى هذه الرسالة .
كل الأمنيات الصادقة لهذا الفنان المخلص أن يعينه الله على أن يكمل رسالتة بالصورة التى إرتضاها ورحلتة فى البحث عن الهوية المصرية التى بدأها منذ عام 1990 تحت شعار ” معا نغير العالم ” رغم الضغوط التى يتعرض إليها والعراقيل التى توضع أمامه ؛ والتى يتغلب من منطلق ايمانه بتجربته ووقوف زوجته القديرة سهام يوسف إلى جانبه والتى يجد فيها سندا وعونا له .