محمد يوسف العزيزي يكتب : حين يصبح القبح عادة: معركة الذوق العام المستباح !

الكاتب الصحفي محمد العزيزي

قديماً قال شاعر إغريقي: “هزمناهم ليس حين غزوناهم، ولكن حين أنسيناهم تاريخهم.”
والمعنى ببساطة: أن الهزيمة الحقيقية لأي أمة لا تبدأ من غزو حدودها، بل من تغييب وعيها، وقطع صلتها بتاريخها، وتغريب ذاكرتها الجماعية عن كل ما يربطها بمجدها وهويتها. وحين تفقد الأمة اعتزازها بماضيها، تضيع شخصيتها، وتنطمس ملامحها، وتبدأ في التعايش مع القبح كأنه جمال، ومع الرداءة كأنها فن، ومع الإسفاف كأنه حرية.

سقوط الأمم لا يبدأ بسقوط جيوشها، فالهزائم العسكرية يتم استدراكها، ويمكن للجيوش أن تعيد بناء قوتها لتنتصر من جديد. أما إذا تنازلت الأمة عن قيمها وتقاليدها، واغتربت عن فنونها الراقية وذوقها العام، وتخلى أبناؤها عن الفضيلة والجمال… فهذه هي الهزيمة الكبرى!

ويبدو أننا، كمجتمع، في قلب معركة شرسة من هذا النوع، معركة تستهدف تغييب الوعي وتشويه الذوق، وتجريف قيم الجمال والحق، ليتحول الإنسان إلى مجرد مستهلك لكل ما هو ساقط وسخيف ورديء.

انظر إلى الشارع تجد الرصيف وقد تحوّل إلى سوق عشوائي مفتوح.. الكافيهات والمحلات أخرجت كل ما في بطونها وطرحته أمام المارة، والرصيف الذي خُلق للمشاة تم اغتصابه واحتلاله تمامًا، أما الطريق المخصص للسيارات فقد تم اقتطاع نصفه كموقف أو معرض، تاركًا المارة أمام خيار واحد: أن يسيروا تحت عجلات السيارات!

بلطجة صريحة واعتداء فج على القانون، وتحويل الحياة اليومية إلى كابوس، دون أي تدخل بل صمت غريب من الجهات المسؤولة .. لا وزير يستجيب، ولا حيّ يتحرك، لتتحول مظاهر الفوضى إلى “مشاهد معتادة”، وكأن هناك إصرارًا على تكريس القبح حتى يصبح مألوفًا للناس كأنه قدر لا مفر منه !

الأمر لا يتوقف عند الطريق والرصيف، بل يمتد إلى الذوق العام والفن والثقافة.. قوتنا الناعمة التي كانت ذات يوم سفيرًا فوق العادة لمصر تتعرض اليوم لتسطيح متعمّد، وإهدار ممنهج ، وأصبحنا نرى من يسمون أنفسهم “فنّانين” لا يملكون من الفن إلا اسمه، ومن القيم إلا هدمها..

المعركة أصبحت واضحة بين قلة مؤمنة بالفن الهادف الراقي، وبين كتائب من أدعياء الإبداع، الذين ينشرون الإسفاف بحجة “حرية التعبير”. !

المفزع أن بعض المدافعين عن هذا الانحطاط ليسوا من العامة، بل من حملة الأقلام ونجوم الشاشات وقادة الرأي وبعض رجال المال ممن وجدوا في تسطيح العقول وتغييب الوعي فرصة سانحة لإشغال الناس عن قضاياهم الحقيقية!

لقد خاضت مصر معارك كبرى، ونجحت في تجاوز أزمات ومؤامرات، وما زالت تخوض معارك بقاء وصمود…

لكن – في تقديري – تبقى معركة الوعي وترقية الذوق العام، هي المعركة الأهم والأخطر.لأن بناء الإنسان، وتحصين وجدانه، أصعب بكثير من بناء الحجر، والإنسان هو بناء الله، ولعن الله من يهدمه!

لهذا، فإن عودة الوعي، واستعادة نقاء الذوق العام، وحماية الهوية، مسؤولية كل فرد وكل أسرة، لأنها معركة مجتمع بأكمله، يجب أن يخوضها إذا أردنا لمصر أن تجتاز بنجاح كل التحديات التي تواجهها

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.