إن الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي منذ أمد بعيد ولا يزال، هي أزمة الفرقة والانشقاق، وأزمة تشتت الشمل، وانحلال عقدة الوحدة والانسجام، وبالتالي أزمة الاضطراب في الأفكار والاتجاهات، والتضارب في الآراء والنظرات،
مما أدى إلى فقدان الثقة فيما بين الأفراد والجماعات، وأحدث فوضى في كل مجال من مجالات الحياة، وأذهب ريحهم وشوكتهم، وشوَّه تاريخهم وسمعتهم، وزاد إلى صفحاتهم البيضاء صفحةً سوداء أضعفت فيهم روح البطولة والإيمان، وحرمتهم منصب القيادة والزعامة، وأفقدت فيهم القصد والاتزان، فتآلبت عليهم الأمم والشعوب التي كانت بالمرصاد، وسلبت منهم كل ما أرادت من جوهرة العز والقوة، وقضت على البقية الباقية من متاع الحب والحنان، وجرَّدتهم من كل ما كانوا يملكونه من ذاتية وخصيصة، وعرتهم من كل ما كانوا يتمتعون به من تآلف وتوادد، وتركتهم شعباً ضعيفاً وأمةً لا شأن لها.
كان ذلك أسمى أمنية راودت هذه الشعوب، فلم تزل تعمل ليل نهار في تحقيقها، وتستخدم كل حيلة فيما يعود على المسلمين بشتات في شملهم، ونقص في معنوياتهم، ويتركهم لحماً على وضم، وذلك لأنها توصلت بعد اختبار وتجربة طويلة إلى أن عزها معقود بذل المسلمين، وأن انتصارها يرتبط باندحارهم،
فلابد من خلق أسباب تتكفل تجريدهم عن خصائصهم الأولى والأساسية التي تحول دون تحقق مطامعهم ونواياهم الشريرة الخبيثة، وذلك بتفريق كلمتهم الموحدة ونقض وحدتهم الجامعة بأي طريق ممكن، فإنه إذا تم ذلك تم كل شيئ بعده.
وركزت دول هذه الشعوب وحكوماتها – وما أكثرها وأقواها – في هدم هذا الأساس في مجتمعات المسلمين وفي نفوسهم، وتحبيب الانعزالية والخروج عن الطاعة والتمرد على روح التآلف والتجمع إلى أفرادهم، وقد وجدت هذه الحيلة سبيلاً إلى بيوت المسلمين وأسرهم، ونواديهم ومجتمعاتهم، ثم إلى دولهم وحكوماتهم حتى تفرقت أفكارهم وآراؤهم، وتباينت وجهات أنظارهم وتضاربت أعمالهم وجهودهم،
ولم تعد لديهم تلك الجامعة الإسلامية الكبرى التى ربطتهم بخيط واحد، وجمعتهم على كلمة واحدة، وأقامتهم في صف واحد، إنما كانوا أسراً موزعةً، وجماعات متفرقةً، وأحزاباً مختلفةً.
وظل المسلمون يعيشون في شتات وتمزق، ويتأرجحون بين جانب وآخر، لا قيمة لهم في مصاف الأمم، وكل قيمتهم أنهم يشغلون قطعةً كبيرةً من الأرض، ويشكلون أغلبيةً ساحقةً في معظم الأقطار، ويملكون معادن كبيرةً من خيرات الطبيعة وآبار البترول، وحقول الطاقات الرئيسية، إذن كان لا بد من إضعافهم وكسر قوتهم، وإخضاعهم لشواغل نفسية وغرائز بهيمية، ونزوات شيطانية تمزق وحدتهم قبل كل شيئ وتقطع صلتهم عن مصدر قوتهم بعده.
لقد أنتج هذا الشتات تفرقاً في الأفكار والاتجاهات، ووجهات الأنظار، فهنا كتل وجماعات
وهناك أحزاب ودويلات، وهذا شرقي وذاك غربي، وهذه شمالية وتلك جنوبية، وتحقق ما حلم به الاستعمار من تناحر وتخاصم بين بلد وبلد، وأمة وأمة وعاد التاريخ على أعقابه،
وتجددت الجاهلية بأسماء لماعة وألقاب خلابة ولافتات جذابة، وغزت هذه الشعوب والأمم الجالسة بالمرصاد عقر بيوت المسلمين ودخلت مخادعهم، وأذاقتهم عذاب الهون، وساقتهم بعصا الحكم وصادرت كل ما كانوا يملكونه من بقايا الفضائل والآداب الإسلامية، واستولت على عقولهم وخيراتهم كلتيهما، وفعلت من الأفاعيل ما لا يخفى على الخبير الواعي.
ولم يكن وجود هذه الأزمات والمشكلات الكثيرة الطريفة التي يعاني منها الأقطار الإسلامية والعالم الإسلامي إلا ثمرة هذا التفرق والتمزق، ولم يكن وجود إسرائيل في قلب العالم العربي ومشكلة فلسطين وذهاب بيت المقدس من أيدي المسلمين إلا نتيجة لهذه المنازعات والمخالفات التي شغلتهم وذهبت بريحهم وقوتهم،
الأمر الذي أقض مضاجع العالم الإسلامي كله، وتركه على خرط القتاد منذ أمد غير قصير، وقد أدى العالم الإسلامي العربي ضريبة الذل والعار بخسران المعركة ضد اليهود، والحرمان من حقوقه ومقدساته في القدس وفلسطين وسيناء ومرتفعات الجولان عام 1967م.
لقد ذاق العالم الإسلامي وأرض غزة أرض العزة والصمود منذ سنتين مرارة هذا التشتت والتفرق من جديد، فلا تزال تهراق فيها دماء المسلمين الأبرياء من الأطفال والنساء والمرضى والمعاقين ، وتستمر سلسلة من القتل والتشريد وهدم البيوت والمنازل من دون هوادة ولا رحمة، فلا تطلع شمس في يوم من الأيام على أرض غزة ، إلا وتأتي بعشرات من المشاهد البشعة والمجازر الوقحة ،
ويرى العالم الإسلامي كله ذلك ويسمع ، حتى الأمم المتحدة، ولجنة حقوق الإنسان التي أنشئت لإنشاء بيئات من الأمن والأمان في العالم كله عاجزةً عن إيقاف هذه المجزرة.
وقد أحاطت أرضَ غزة وفلسطين دول العالم العربي إحاطة السوار بالمعصم، وهي دول شقيقة وبلدان مجاورة لفلسطين، لكنها مكتوفة الأيدي والأرجل، ومغلولة الأعناق، لا تستطيع أن تقدم مساعدات ماليةً، ولا يمكنها أن توفر أدوات لازمة للحياة،
فضلاً عن إمساك الظالم عن قتل الأرواح والأنفس، وهدم البيوت والمنازل، وقد صدرت إدانات وبيانات شجب واستنكار
على هذه العملية القبيحة من المنظمات العربية الذائعة الصيت في العالم كله، واجتمع رؤساء الدول العربية تنديداً
لهذه المجازر، لكن كانت اجتماعاتهم حبراً على ورق، أو نفخةً في رماد،
ولا شك أن هذه الاجتماعات كانت نداء ضمائرهم وقلوبهم، لكن الأوضاع الراهنة كانت تتطلب أكثر بكثير من هذا، ومما
زاد الأمر تفاقماً أن الرئيس الأمريكي زار هذه المناطق الخليجية، وأقام في الدول الثلاث أياماً وليالي ، حتى قامت
هذه الدول باستقباله الفريد وترحابه المنقطع النظير، وقدمت له أطناناً من الدولارات والريالات، وقناطير مقنطرة من
الذهب والفضة، لكنها لم تتمكن من إيقاف هذه الحرب الجارية بين حماس وإسرائيل.
وقد ظهرت إيران خلال هذه الفترة كمؤيدة وحليفة لهذه الأراضي الفلسطينية، وكانت تستنكر من قبل ببياناتها،
وتكشف الظلم والغطرسة لإسرائيل، واعتداءاتها على سكان فلسطين علناً وجهاراً، وقد اعترفت بذلك قيادة حماس،
وشكرتها مرات عديدةً، هذا في جانب ، وفي جانب آخر جرت حرب بين إسرائيل وإيران، فبدأت إسرائيل الغارة على
إيران بالنسبة إلى تمويلها وتأييدها لحركة حماس، فرداً على هذه الغارة قذفت إيران الصواريخ المدمرة على إسرائيل،
اتجهت مباشرةً إليها، ولم تمسك طريقها نحو إسرائيل، واستمرت إلى 12 يوماً ،
وقد خاضت أمريكا في هذه الحرب مباشرةً، وادعت بتدمير المواد النووية في إيران، التي كانت إيران تدخرها لصناعة
القنابل النووية، ثم وقفت الحرب، لكن وقفت الحرب بدون التركيز على النقطة الرئيسية التي كانت مبعث إشعال فتيل
الحرب، وهو إيقاف الحرب وتوفير وسائل المعيشة في غزة، فإذا علقت هذه النقطة في إيقاف الحرب لكان الأمر في
الشرق الأوسط، وأرض غزة بالذات بالعكس، لكن سارعت إيران إلى وقف الحرب، فخابت أحلام الأبطال في غزة، ولم
تتحقق أمانيهم على أرض الواقع ،
هذا إن دل على شيئ فإنما يدل على نوايا إيران المختلفة التي تضمرها نحو طوفان الأقصى، كما يشير إليه
المحللون السياسيون، نحن لا نؤول أبداً التضحيات التي قدمت إيران لمساندة أبطال غزة، ومواصلة مسيرة الجهاد
على أرض فلسطين وهو باب مشرق وقد اعترفت بذلك القيادات ذات المستوى الرفيع لحركة حماس في غزة، لكن
إيقاف الحرب من دون مبرر سابق، وبدون شرط أساسي واستغلال هذه الحرب لمصالحها، ينشئ في نفوس كثير من
الناس الشكوك والشبهات، ويضع القضية على طاولة النقاش.
رغم هذه التساؤلات والشبهات تتطلب الأوضاع المعاصرة من كل دولة من دول العالم الإسلامي أن تكون متضامنةً
ومتحدةً بعضها ببعض، لأن التضامن الإسلامي هو الحاجة الأكيدة التي تضمن العز والسعادة للأمة الإسلامية ، وتزيد
ثقلها في ميزان العالم، فإن المسلمين كلما تهاونوا في امتثال هذا الأمر الإلهي، وتكاسلوا في ربط مصيرهم بحبل
الله فأجأهم من شواذ الأحوال والأمور، ما حط من مكانتهم، وتسفل بهم إلى درك الذل والهوان، وقد تبؤوا منصب
القيادة، وأدركوا حقيقتهم بالانضواء تحت لواء الوحدة والانسجام، وامتثال ما أمرهم الله به من الاعتصام في قوله
انا اريد ان ابعث على هذا الويب مقالاتي