الكاتب الصحفي محمد يوسف العزيزي يكتب: مصر.. ” لاءات ” في زمن الإملاءات !

في العلاقات الدولية كثيرًا ما يتم استخدم الاقتصاد بكل أشكاله وسيلة للضغط على الدول التي ترفض الخضوع للإملاءات أو التنازل عن ثوابتها الوطنية ومصالحها القومية .. وهذا نراه جهارا نهارا في مواقف الولايات المتحدة تجاه دول في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وإيران ، وحتي الدول الحليفة عندما تتعارض مصالحها مع تلك الدول
فمنذ عقود ظلت مصر تعبر بكل الوسائل عن ثوابتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية .. وجاءت مواقفها الأخيرة أكثر وضوحًا وصلابة لتعلن ” لاءات ” جديدة تضاف إلى سجلّها القومي ودورها المحوري في قضايا المنطقة .
فقد رفضت القاهرة بشكل قاطع كل محاولات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء أو إلى أي دولة ثالثة معتبرة أن هذا المخطط يقضي على حلم الدولتين، ويدفن القضية الفلسطينية تمامًا لصالح حلّ وهمي يخدم مصالح الاحتلال الصهيوني
وفي نفس الإطار رفضت مصر إقامة قاعدة أمريكية متقدمة على جزيرتي تيران وصنافير أو تحويلهما إلى نقاط استخباراتية أمريكية – حتي ولو لم تعلن أمريكا عن هذه الرغبة بوضوح أو بشكل رسمي – بما يعني ربط البحر الأحمر والمنطقة ككل بأنظمة رقابية تتم إدارتها مباشرة من غرف عمليات أمريكية وصهيونية في الكيان!
هذا الموقف جاء متسقًا مع تحذير وزارة الخارجية المصرية الواضح والصريح من عسكرة البحر الأحمر تحت أي مسمى مؤكدة أن أمن البحر الأحمر هو امتداد مباشر للأمن القومي المصري لا يقبل العبث أو المساومة!
وعلى الصعيد الإقليمي رفضت مصر الانخراط العسكري في عملية “عاصفة الحزم” في اليمن، وفضلت الاكتفاء بالدعم الاستخباراتي والسياسي، وهو ما يعكس رؤية استراتيجية تضع حماية الجبهة الداخلية المصرية أولوية مطلقة في مواجهة صراعات استنزافية يطول أمدها ولا يملك أحد نهاية لها كما نتابع على أرض الواقع
كما لم يتراجع الموقف المصري الثابت أيضًا في العلاقات مع واشنطن، إذ اعتذرت القاهرة عن تلبية دعوة الرئيس
الأمريكي دونالد ترامب لزيارة البيت الأبيض في وقت كانت فكرة تهجير الفلسطينيين إلي سيناء مطروحة بقوة،
وتحويل غزة إلى “منتجع سياحي” بغطاء دولي خادع !
وكما تمسّكت مصر بمبدأ السيادة في ممراتها المائية رافضة مرور السفن التجارية والحربية الأمريكية من قناة
السويس مجانًا، مؤكدة ضرورة احترام القوانين والالتزامات الدولية!
هذه المواقف المتتالية أثارت التساؤلات: هل تدفع مصر ثمن استقلال قرارها ؟ وهل الحصار الاقتصادي والمائي الذي
تواجهه جزء من فاتورة عدم الانصياع للإملاءات الأمريكية والغربية؟ وهل ما يبدو من برود في علاقاتها ببعض الدول
الخليجية يعكس ارتدادات لهذه اللاءات؟
الحقيقة أن مصر تحافظ على توازن دقيق بين حماية مصالحها الوطنية والحفاظ على مكانتها الإقليمية ، حتى لو كلفها
ذلك ضغوطًا غير معلنة وحملات اقتصادية أو سياسية !
إنّ الثمن الذي تدفعه القاهرة هو ثمن الاستقلال والسيادة، وهو خيار تاريخي واستراتيجي يعكس قناعة راسخة بأن
التفريط في الثوابت يعني زوال الدور والمكانة .
لذلك.. تواصل مصر صياغة خطابها الإقليمي والوطني في زمن اختلطت فيه الأوراق وتشابكت فيه المصالح لتؤكد أنها
مهما تغيّرت الظروف ستبقى مركز الثقل العربي الحقيقي المدافع الأول عن هوية المنطقة ، ودرعها الصلب أمام كل
مشاريع التصفية وإعادة الهندسة الجيوسياسية للمنطقة .