الكاتب الصحفي يسري السيد يكتب : الجمهورية وصوت العرب .. أبناء ثورة يوليو البكر!!

توقفت وأنا أحتفل مع الأصدقاء فى إذاعة صوت العرب الجمعة الماضية بعيد ميلادها ال 72 ، أه والله 72 عاما وهو أكبر من عمر دول وكيانات .. المهم توقفت بالتفكيرعند مغزى إنشاء أذاعة صوت العرب فى 4 يوليو 1953 بعد ما يقرب من عام على قيام ثورة 23يوليو1952 ، وأزداد تعجبى حين قفز الى ذهنى تاريخ وأسباب إنشاء جريدة الجمهورية وعددها الأول فى 7 ديسمبر 1953.
سألت نفسي هل هناك إرتباط وفلسفة بين هذين الحدثين ؟
طبعا هناك ارتباط وثيق ونحن نحتفل هذا الشهر بالعيد ال 73 لثورة يوليو ، فقد أدرك الرئيس جمال عبد الناصر ضرورة ان يكون للثورة أدواتها الإعلامية الخاصة بها ، المؤمنة بأهدافها وفلسفتها ، لذلك كانت الجمهورية التى يحمل ترخيصها اسم جمال عبد الناصر وكان الرئيس أنور السادات أول مدير عام للتحرير فيها .
و صوت العرب بدأت بفكرة برنامج يحمل أسم صوت العرب ليذاع على هواء أذاعة البرنامج العام ” القاهرة” ليكون لسان العرب المنطلق من القاهرة ، لكن خيال د. عبد القادر حاتم المشرف على ملف الإذاعة و تولى بعد ذلك منصب وزيرالإعلام وقتها جعله يقترح على الرئيس عبد الناصر أن يتحول البرنامج الى إذاعة كاملة تحمل إسم صوت العرب ، وكانت الموافقة الفورية لإدراك الرئيس عبدالناصر من أول لحظة أهمية الصحافة والإذاعة في تشكيل الرأي العام ودعم القضايا العربية
وأنا أتخيل وجه الرئيس عبد الناصر وقد لمعت عيناه بالفكرة التى تحقق أهدافه حول العروبة والقومية العربية و تشكيل الرأي العام ودعم القضايا العربية ليوافق على الفور لتخرج صوت العرب للهواء فى 4 يوليو 1953
وهكذا بدأ مشور وميلاد لصحافة واذاعة جديدة لم تعش أيام ومؤامرات الملك وتحالفات الأحزاب وسيطرة الصراعات السياسية والتجاذبات الحزبية والفساد السياسي الذي كان سائدًا قبل الثورة ، يعنى صوتان جديدان تماما ، جريدة وأذاعة لم يتلون صوتهما أو يمتزجا بأصوت أخرى ، صحافة وطنية مستقلة وإذاعة جديدة يعبران و يدافعان عن توجهات الثورة و مبادئها وتوجهاتها وأهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأخطر من ذلك بناء الوعي الوطني ، محليا و خارج حدود مصر ،
لذلك سعت الجمهورية إلى توعية وتعزيز الوعي الوطني للمواطنين ونشر ثقافة التحرر والاستقلال مع الدور التنويري من خلال صفحات الحوار والثقافة والمقالات والتحليلات السياسية لتشكيل الهوية المصرية الجديده بعد ثورة يوليو..، و من جهة ثانية بناء جسر من الثقة للتواصل بين القيادة والشعب من خلال عرض رسائل القيادة وتناول هموم وأوجاع وآمال الشعب .
أما صوت العرب فكان نطاق عملها يمتد للنطاق الإقليمى والعربى ، وتحولت صوت العرب بعد شهور قليلة من ناقل للأخبار الى صانع لها ،ومشارك فيها ، وتجلت هذه الأدوار أثناء ثورة الجزائر وحرب اليمن وحلف بغداد والوحدة مع سوريا وحرب 1956 .. الخ
مثلا فى الثورة الجزائرية تحولت صوت العرب الى وزارة أعلام للثورة الجزائرية(1954-1962) ضد الاستعمار الفرنسي، ليبث أول بيان لها فى أول نوفمبر 1954 ، و كان بمثابة إشارة انطلاق الثورة المسلحة في الجزائر وأُذيع البيان بصوت المذيع أحمد سعيد، ووصل صوته إلى كل بيت جزائري، محفزًا الشعب على الإنضمام إلى النضال، و طبعا دفعت مصر الثمن نتيجة هذا الموقف فى العدوان الثلاثى البريطاني الفرنسي الإسرائيلى
وأصبحت صوت العرب حصنًا منيعًا للمناضلين الجزائريين و المصدر الرئيسي للأخبار والمعلومات حول سير العمليات الحربية، والإنتصارات التي يحققها جيش التحرير الوطني، وكشفت عن جرائم الاحتلال الفرنسي للعالم…
وعملت الإذاعة على رفع الروح المعنوية للمقاتلين والشعب الجزائري المحتل، وبثت فيهم روح الصمود والمقاومة و كانت بمثابة الحبل بين قادة الثورة في الخارج والشعب في الداخل، مما ساهم في توحيد صفوف الثوار وتوجيههم… وكشفت “صوت العرب” عن وحشية الاستعمار الفرنسي ومجازره ، و ساعد هذا الدور الإعلامي في تكوين رأي عام عربي ودولي متعاطف مع القضية الجزائرية، وفضح إدعاءات فرنسا بأن ما يحدث في الجزائر هو شأن داخلي.
ونجحت صوت العرب فى أزعاج المستعمر الفرنسي لدرجة توزيعه أجهزة راديو لا تلتقط موجاتها ، وكان رد المواطنون الإلتقاء سرا لسماع صوت العرب ، ونجحت الثورة وتحررت الجزائر ونجحت ثورة يوليو فى تحرير الجزائر لتنتقل التجربة الى القارة الافريقية بأكملها وامريكا اللاتينية
وفى الجمهورية كان الصحفيون لايريدون ان يكون سلاحهم هو الكلمة فقط .. لكن أرادوا أن يمتزج حبر المطابع والأقلام مع دماء الشهداء فى معركة التحرير وليكون الدم هو مدادهم الذى يكتبون بها مقالاتهم ويرسمون بها ، فسافر الصحفي و فنان الكاريكاتير أحمد طوغان الى الجزائر ، وحكى لى “عم طوغان ” كما كنت أناديه من خلال سلسلة من الحوارات و التسجيلات بلغت نحو 10 ساعات تجربته للسفر الى الجزائر والتى كانت بمثابة مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتعكس إيمانه القوي بقضية التحرير الجزائرية…
لم تكن هذه الرحلة مجرد زيارة صحفية عادية، بل كانت تسللاً مخططًا له لتوثيق الثورة من قلب الأحداث والالتقاء بقادتها.
كيف بدأت الرحلة؟
يحكى عم طوغان لى وكما وثقه فى كتاب له قائلا : الرحلة بدأت بحيلة ذكية لتجاوز الرقابة الفرنسية.. حصلت على تأشيرة دخول إلى فرنسا بحجة زيارة معارض فنية في باريس..ومن هناك، لم أتوجه مباشرة إلى الجزائر حتى لا ينكشف أمرى ، بل سافرت إلى المغرب، وتحديداً إلى الرباط، وكانت المغرب أنذاك نقطة عبور حيوية للمقاتلين والإمدادات المتجهة إلى الثورة الجزائرية.
وبدأت المغامرة بالتسلل إلى الأراضي الجزائرية من الرباط، وكان الجزء الأصعب من الرحلة عدم وجود عبور مباشر وآمن إلى الجزائر بسبب الحرب الدائرة والسيطرة الفرنسية المشددة على الحدود،
لذلك أعتمدت على المنسقين وأعضاء الشبكات السرية لجبهة التحرير الوطني الجزائرية ، وتسللت إلى الأراضي الجزائرية سيرًا على الأقدام عبر الحدود الوعرة” طبعا هذه العملية كانت تتطلب شجاعة كبيرة فقد كانت المنطقة مليئة بدوريات الجيش الفرنسي والمخاطر.
وفى داخل الجزائر دخل عم طوغان الى معاقل الثوار وقلب الثورة ، لم يكتفِ بمشاهدة الأحداث من بعيد، لكنه عايش معاناة الشعب الجزائري بشكل مباشر تحت نيران الاحتلال الفرنسي
وفى مذكراته وكتابه “سيرة فنان صنعته الآلام”، يصف الأوضاع الصعبة التي واجهها الجزائريون، ويكشف عن تفاصيل الحياة اليومية في ظل الثورة، ولقاءاته مع قادة الثورة ورموز المقاومة ،
فقد التقى بشخصيات تاريخية مثل أحمد بن بيلا، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس للجزائر المستقلة ، طبعا هذه اللقاءات كانت نادرة للغاية بالنسبة لصحفي أجنبي في خضم الحرب، وتؤكد على الثقة التي أولاها قادة الثورة له، وترجم ذلك فى التقاطه الصور مع شخصيات عالمية دعمت الثورة، مثل تشي جيفارا، مما يدل على عمق انخراطه ووصوله إلى دوائر صنع القرار داخل الثورة.
بإختصار وثق طوغان ما شاهده وصوره والتى مثلت دليلًا حيًا على حجم التضحيات والمعاناة، وكانت هذه المواد الصحفية والفنية ذات قيمة كبيرة في نقل صورة حقيقية عن الثورة الجزائرية إلى العالم الخارجي، وكشف وحشية الاحتلال الفرنسي ،
وبعد إنجاز مهمته، عاد طوغان بنفس الطريقة الصعبة التي دخل بها، حاملًا معه كنوزًا من المعلومات والصور التي شكلت أساسًا لعمله الصحفي والفني اللاحق في دعم القضية الجزائرية ، ونشر بعضها فى كتابه عن تجربته في الجزائر بعنوان “أيام في الجزائر”.
ألم أقل لكم إن هناك تشابها كبيرا فى الجمهورية وصوت العرب ، أبناء ثورة يوليو البكر ، وأمتدت الرحلة ، جاءت أجيال ورحلت أجيال ، لكن الذى لم ينقطع هو حب هذا الوطن من المحيط الى الخليج !!
yousrielsaid@yahoo.com