الدكتور أسامة مدني يكتب : “السائرون زحاما” 

الدكتور أسامة مدني

قديما في اليونان، كان سقراط يصطحب مجموعة من التلاميذ يمشون في الشوارع جيئة وذهاباً يتعاطون الفلسفة. فلم يجد الرجل مكاناً لهم سوى الطرقات، فاشتهروا في التاريخ باسم “المشائين”. وتلك خاصية في الثقافة الغربية منذ سقراط وحتى الآن: فالمشي في الشارع لغرض وليس لعرض، لغاية وليس لهواية؛ إسراع بلا إبطاء، اقتصاد بلا إسراف.

ومن هنا، كان “الخروج إلى الشارع” في تلك الثقافة محددا بوجهة معينة، متفق عليها قبل الخروج إليه. فالشارع وسيلة وليس غاية، سبيل للعبور منه وليس غاية للهروب إليه. المكوث فيه طويلا يثير الريبة والظنون والعبور منه سريعا يبعث على الطمأنينة والسكون. فالكل يسعى فيه إلى أعمالهم بنظام ودقة وترتيب بلا فوضى أو إهمال أو تخريب. الشارع إذا مساحة مقدسة، التحفظ فيه محمود، والإفراط فيه منبوذ.

أندهش من الزحام المفرط في شوارعنا؛ من أمواج من البشر تسير بلا انقطاع، قليل منهم بهدف، كثير منهم بلا اكتراث. أتعجب من شباب وشابات استباحوا الشوارع والطرقات كملاذ أخير؛ من أطفال يركضون ويصيحون وكأنه النفير، من آباء وأمهات يقلَّبون في البضائع هنا وهناك بلا تفكير أو تفسير. لقد أضحى الشارع لدينا، وهو المكان الآمن للعبور، مسرحا للفوضى والعبثية والثبور. فنرى أعمالاً وأفعالاً وأقوالاً جساما: من تحرش بالفتيات وأحياناً الأسر، إلى عبث بالمرافق العامة؛ من تكسير اللوائح الإرشادية، إلى العبث بالحدائق والمتنزهات، من ألفاظ خادشة للحياء، إلي أفعال هادمة لقيمنا الغراء. فالزحام غير المبرر يولد طاقة من العنف، تبدأ لفظيا ثم تتحول جسدياً. وهو ما نراه ظاهرا جلياً في حياتنا اليومية.

نريد ثقافة تعلي من قيمنا الخالدة. فمن غيرنا يلزم بيته إلا للضرورة؟ من غيرنا يعف اللسان ويقصد في المشي؟ من غيرنا يغض البصر ويدفع عن الناس الأذى؟ نريد ثقافة تعلي من قيمة الانضباط وتحث عليها، وتلفظ الفوضى وتنفر منها. نريد شارعا آمنا، أمينا، وليس مفزعا، مخيفا.

فإن كان لا مفر من الزحام، فكيف لنا أن نبيح التزاحم؟ فالثمن هنا حتما سيكون باهظاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.