” الصفيح ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

حجرة من صفيح ، تحتمى بجبل المقطم ، تستقر تحت أقدامه عند القاعدة ، تحتضن الخلاء الممتد حتى اسوار قلعة صلاح الدين ، تستقبل كل يوم فتات التراب المتساقط من اعلى الجبل ،
تأتى الرياح تكنس سطح الجبل من اعلى ، وتكوم التراب فوق سقف الحجرة الصفيح ، تتسرب ذرات الغبار بين خلل الصفيح المرصوص بجوار بعضه دون تنسيق ،
يستيقظ من احلامه يجد فمه ممتلأ بالتراب ، ووجهه معفراً ، ينظر الى السماء من ثقوب السقف المنتشرة ، مازال الليل فارضاً ظلامه على الكون ،
يلمح نجمه صادفت ان القت بشعاعها نحو الارض ، اضاءة ظلام الحجرة بشعاع ضئيل من النور ، اهتدى به للوصول إلي أمه ..
أمى ..
أمى..
⁃ عايز إيه ياجابر
⁃ عايز اعمل زى الناس
⁃ هو ده وقته يا جابر
⁃ اعمل إيه مزنوق يامه، ازاحت ” صديقة ” الخرقة المهللة من فوق جسدها ، وأخذت بيد جابر وانزوت به فى جانب من الحجرة مترباً
⁃ ياله اعمل هنا
⁃ هنا ؟!
⁃ أيوه .. لو خرجت بره دلوقت الكلاب هتاكلك ، ومش بعيد تعبان يلدغك، وقف جابر قضى حاجته فى خجل ، وهو يتابع أمه بطرف عينيه
⁃ خلصت ..
⁃ آه
⁃ ارجع نام فى وسط اخواتك، تسلل شعاع ضوء الفجر رويداً رويداً حتى اكتمل بهاء الشمس بضوء صباحي أقرب إلى البرتقالى ، نهضت “صديقة” وأيقظت جابر ، مسحت على وجه بيدها
⁃ ياله يا جابر نلحق أى عربية كارو من بتاعت الزبالين نازلة البلد ننزل معاها ، نلحق الموظفين قبل الشغل ، سحبت جابر من يده ، حتى وقف بين يديها تماماً ، أخرجت من كيس بلاستيك ، رباط شاش مبلل بدماء ، ولفت به رأس جابر عدداً من اللفات ، ثم سحبت جزءاً من الشاش على عينه اليسرى ، وأدخلت يده اليمنى داخل الجلباب بعد أن حررتها من الكُوُمْ ، ثم هوشت شعره بقوة فى كل الاتجاهات ، ألقت على جابر نظرة أخيرة ، اطمأنت على تمام الخدعة ، كان جابر مستسلماً تماماً كأنه يؤدى عملاً روتينياً اعتاده يومياً ،
ركبت صديقة وجابر فى القفة المدلاة بين العجلتين الخلفيتين للعربة الكارو ، تسلى بمشاهدة السيارات التى تمرق مسرعة من حوله ، والأطفال الذاهبون إلى مدارسهم مع أهاليهم ، ملابسهم نظيفة والوانها زاهية ، والاطفال يجلسون فى المقاعد الخلفية للسيارات، يلصقون وجوههم بزجاج الشبابيك ، ترتسم دوائر من بخار على الزجاج ، تخفى نصف ضحكاتهم عندما تلتقى عيونهم بعيون جابر وامه ،
اعتاد جابر على تلك النظرات يومياً ، يهرب منها بالنظر الى السماء ، يتابع أسراب العصافير الصباحية التى تطير فى الهواء بحرية ، يتمنى أن يمسك واحدة ، يريد عصفورة تشاركه الحجرة الصفيح ، ويلعب معها تحت سفح الجبل فى الخلاء ،
⁃ ياله يا جابر انزل وصلنا ، تهبط هى وجابر فى ميدان القلعة ، يتطلع الى جامع الرفاعى والسلطان حسن ، تمشى ممسكه بيد جابر حتى تصل الى الفرن الافرنجى ..
⁃ صباح الخير يا حاج
⁃ صباح الخير يا بنتى
⁃ صباحك نادى باذن الله
⁃ باذن الله يا بنتى
⁃ مد ايديكى خدى رغيفين لكى وللواد اللى انتى مبهدلاه معاكى ده ..
⁃ هنعمل ايه بس يا حاج أكل العيش .. ياريت الناس كلها زيك ، تأخذ صديقة بعض أرغفة ، ثم تستكمل السير مخترقة شارع محمد على ،
تبدأ محلات الموبيليا فى الظهور على جانبى الشارع ، عند عطفة سنان يقف محمد الشامى بعربية الفول ، تمد له الأرغفة ، يأخذها ويردها لها بالفول الساخن المعمول بالزيت الحار ، تجلس على الرصيف المقابل ، يجلس بجانبها جابر ، تضع ارغفة الفول بينها وبينه على الرصيف، .. سريعاً ينتهيا من وجبة الإفطار
⁃ ياله يا جابر شد حيلك معايا النهاردة عايزاك تصعب على الكافر ، أكملت السير حتى نهاية شارع محمد على ، أصبحت مديرية أمن القاهرة على يمينها والمتحف الاسلامى أمامها ، وبينهما رصيف ،
عبرت الطريق وهى تحمل جابر معلنة عن بدء عمل يوم جديد ، تصيدت مكاناً بجوار المطب الصناعى عند إشارة المرور ، وجلست تحتضن جابر بين ذراعيها ، لا ينكشف منه سوى العصابة الدامية فوق رأسه ويده المبتورة المخبأة فى جلبابه الفضفاض ،
كان جابر يري الشارع بنصف عين ، لا يرى من الشارع من خلال جلسته على الرصيف ، سوى اطارات السيارات ، ولا يشتم سوى رائحة العادم ، ويتابع أحذية المارة فى أرجلهم المحاذية للرصيف ،
كل بضع دقائق يرهف السمع ، للأغاني المنبعثة من كاسيت السيارات، بعض السيارات كان يصدر عنها صوت لترتيل القرأن ، كان يعلم من مصدر الصوت الآتى من السيارة اذا كان راكبها سيعطى امه حسنة أم لا ،
تسطع شمس الظهيرة فى رحلتها اليومية الصيفية ، تجلد وجوه الناس وظهورهم ، يغلق الناس نوافذ سياراتهم ، حتى لا يتسرب هواء المكيفات الى الشارع ، يعرف ان هبة نسمة هواء باردة ان صاحب السيارة قد توقف وفتح النافذة وترك ( اللى فيه النصيب ) ، كان يعد عدد الحسنات ، بعدد هبات الهواء البارد التى تلاطف وجه ، يزداد الطقس سخونة ، يشعر ان حلقه جاف كصحراء الربع الخالى ، يطلب الماء
⁃ والنبى يا اسطى معكش شوية ميه للواد العيان ده ، يخرج سائق التاكس زجاجة مياه ويمدها عبر النافذة ويناولها
ل “صديقة ” .. المياه ساخنة كانها تغلى ، تبل ريق جابر وتشطف وجهها ببعض المياه ، وتدلق الباقى على رأسها والقليل من الماء على رأس جابر ، تمر نسمة هواء ساخنة تجفف المياه سريعاً ،
⁃ هانت يا جابر كلها ساعتين والشمس تغيب
⁃ يرد جابر بوهن ( ماشى يامه ) ، عادت العصافير تحلق ، حطت على أسوار المتحف الاسلامى ، تتقافز بين فتحات السور العتيق ، باهت الألوان ، بصبر تضع القش فى الفتحات المتهدمة ، تبنى أعشاشاً ، تسكن فيها ، تهبط الى ارض الرصيف ، تلتقط ما تقتات به ، وتفزع حين مرور البشر والسيارات ،
يتابعها جابر بنصف عين وبأنفاس متقطعة ، تتقاطر حبات العرق على وجهه ، يشعر بسخونتها ، تتهادى إلى أن تصل الى شفتيه، العرق مالح ، يعجز أن يمد يده لتجفيفه ،
تمر سيارة الشرطة المتهالكة ، تبعث دخاناً اسوداً ذى رائحة كربونية خانقة ، تسعل “صديقة “، يطلب منها الجندى ان تغادر المكان من أمام مديرية الأمن ، تنتقل الى الرصيف الآخر ، تحمل جابر فوق كتفها وهو بنصف وعى ، تشارك العصافير فى نفس الرصيف ،
يقترب جابر من العصافير أكثر ، يستمع الى زقزقتها حين تتعارك فى ود ورقة وحنان ،
⁃ هانت يابنى ساعة كمان ونتوكل على الله ، يرد جابر وهو يئن ، يلتقط انفاسه بصعوبه ، يترك أحد المارة بعض النقود فى حجر صديقة ، تردد صديقة الدعاء له بشكل روتينى ومتكرر ، يسمع جابر صوتاً عصفور يقترب منه ، يحاول ان يرفع راسه لينظر اليه ، تخور قواه ، بدأت اطرافه تتشنج فى حركات عصبية
⁃ تضمه اكثر صديقة وتقول له ( هانت )
⁃ فجأه يرى جابر عصفواً ملوناً يقترب منه ، ويضمه بين جناحيه ، ويطير به محلقاً فى السماء ، ينظر جابر من أعلى يشاهد العالم تحته صغيراً وأمه مازالت جالسه على الرصيف تحمله فى صدرها ،
ألقى الليل بظلامه على المكان ، وظل بصيص من نور قادم من عمود إضاءه متهالك ، وبدأت نسمات الهواء تتابع ، أحصت “صديقة” النقود ، وهزت جابر هزات خفيفة لكى يستيقظ للاستعداد للعودة الى العشة الصفيح ، لكن جابر كان مازال محلقاً فى السماء مستمتعاً بالنظر الى الأرض من أعلى
⁃ تطوع احد المتحلقين حول صديقة بمحاولة انعاش جابر ، عم ًالصمت المكان ، ودارت الدنيا بصديقة عدة دورات ، ترددت نظراتها بين الأرض والسماء ، تيبست ملامح وجهها و تقعر خدها فجأة وتجمدت نظراتها ، وشعرت بالغصة تملأ فمها كأنها ابتلعت تراب جبل المقطم كله ،
جلست على الرصيف بجوار جثة جابر الذى كان ممدداً شاخصاً نحو السماء بعيون تسربت منها الحياة ، كان السؤال الذى ألح على “صديقة” أين ستدفن ابنها ، ومن أين لها مصاريف تجهيزه للدفن ؟
لقد رفع زوجها عنها الحرج عندما مات غريقاً فى مركب خشبى محاولاً الهجرة نحو الشمال ، أما الآن يجب ان تفكر وتقرر سريعاً ،
انسحبت من بين الجمع المتحلق حول جابر بهدوء ، وعبرت الشارع وتاهت وسط الناس والزحام فى شارع محمد على ،
وقفت ابتاعت بعض الجبن والخبز ، وقفزت إلى أول عربة كارو متجهة إلى سفح المقطم بجوار عزبة الزبالين ، وضعت الطعام لأطفالها ، انقضوا على الطعام فى شراهة ،
اخذت جنباً وبكت بحرقة ، غير أن أحداً من اخوات جابر او الجيران لم ينتبه لغيابه او سأل عن سر اختفائه !. ،
جاء جابر ومكث قليلاً ومضى نحو الغياب ، لم يترك اثراً أو ذكرى ، حتى أحلامه البسيطه بامتلاك عصفور لم تتحقق ،
لم تنم صديقة ليلتها حتى طلع عليها الصباح ، لملمت أحزانها وأيقظت اخت جابر ووضعت فوق رأسها العُصَابةْ الملطخة بالدماء ، واخفت الذراع فى جنب الجلباب الواسع ، ثم اخذت بيدها وسحبتها خارج العشة الصفيح ومضيا نحو المجهول .
اما جابر كان فوق جبل المقطم يتابعهم وهو يلهو مع العصافير !!