الكاتب الصحفي محمد يوسف العزيزي يكتب : من نيكسون إلى ترامب.. الكذب الأمريكي سياسة لا زلة لسان !

الكاتب الصحفي محمد العزيزي

في الديموقراطيات العريقة لا يُعد الكذب على الرأي العام مجرد زلة لسان أخلاقية، بل جريمة سياسية تستوجب المساءلة، وقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها الحديث شواهد حيّة على سقوط رؤساء عن عروشهم ليس بسبب فشلهم في إدارة الملفات الكبرى، بل بسبب الكذب على الشعب الأمريكي.

فالرئيس ريتشارد نيكسون استقال على وقع فضيحة ” ووترجيت “ بعد أن ثبت كذبه ومحاولته التستر على عملية تجسس سياسي، وواجه الرئيس بيل كلينتون مساءلة قانونية بسبب إنكاره علاقة جنسية مع مونيكا لوينسكي قبل أن تتكشف الحقيقة أمام القضاء والإعلام، ولم يكن جورج دبليو بوش بعيداً عن هذا السياق، حين قدم للعالم رواية مفادها أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، ليبرر غزو العراق، وهي كذبة كلّفت العالم دماءً بالملايين، وما زالت المنطقة تعاني من ارتداداتها حتى اليوم

أما التاريخ فقد سجل أيضًا أن الرئيس فرانكلين روزفلت أخفى معلومات حساسة عن دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، بينما اختلق رونالد ريجان قصة عن مشاهدته صورًا لمعسكرات الموت النازية رغم أنه لم يغادر الأراضي الأمريكية وقتها.

وإذا كان كل ذلك أثار الجدل داخل أروقة السياسة الأمريكية، فإن ما يفعله الرئيس دونالد ترامب اليوم يتجاوز حدود الكذب التقليدي إلى ما يشبه التلاعب الشامل بالعقول ومصائر الدول والشعوب

ترامب الذي بنى حملته الانتخابية على وعود بإنهاء الحروب وسحب الولايات المتحدة من نزاعات الشرق الأوسط، لم يلبث أن انقلب على خطابه. فبينما وعد بوقف الحرب في أوكرانيا خلال أيام من دخوله البيت الأبيض، إذا به يُسهم في تعقيد الأزمة، ويعجز عن تقديم أي رؤية لإنهاء النزاع ، وفي ملف غزة ظهر أكثر انحيازًا من أي إدارة سابقة، متحدثًا عن إنهاء الحرب، بينما يدعم سياسات التهجير ويُبرر القصف، ويذهب أبعد من ذلك بالمشاركة العسكرية في ضرب إيران من أجل إسرائيل، ضاربًا عرض الحائط بتعهده بعدم توريط بلاده في حروب جديدة

هذا الكذب الصريح على الرأي العام الأمريكي لا يمر دون ثمن ، فقد بدأ الشرخ يتسع في صفوف الجمهوريين أنفسهم ، كما ظهرت ملامح الارتباك في المعسكر الديمقراطي الذي بات حائرًا بين واجب المعارضة وحدود النقد في ظل تصاعد التوترات الدولية.

وفي المقابل تفقد واشنطن ما تبقى من رصيدها الأخلاقي كوسيط دولي ، فالإدارة التي كانت تقدم نفسها كضامن للسلام، تحولت بفعل هذه السياسات إلى شريك أصيل منحاز لجانب الاحتلال والعدوان والإبادة والتطهير ومباركة إذكاء النيران ، لا سيما في الشرق الأوسط  حيث تأكد للجميع أن قرارات الحرب والسلام لا يتم اتخاذها وفق مصلحة أمريكية بحتة، وإنما تؤخذ غالبا لصالح الحليف الإسرائيلي، أو بدافع الابتزاز المالي لدول الخليج التي وجدت نفسها تموّل – بشكل مباشر أو غير مباشر – مغامرات عسكرية لا ناقة لها فيها ولا جمل !

وفي ظل هذا المشهد، يبرز السؤال الجوهري: هل يخضع الرئيس للمساءلة بتهمة الكذب على الرأي العام؟  نظريًا يملك الكونجرس الأدوات الدستورية لفتح تحقيق وعزل أي رئيس يتورط في الكذب المؤسسي، لكن الواقع الأمريكي يشير إلى أن الحسابات السياسية والحزبية قد تحول دون ذلك، خاصة في ظل الاستقطاب الحاد بين الحزبين فكلاهما يمارس الكذب علي الداخل والخارج ، بالإضافة إلي سيطرة المصلحة الانتخابية على المشهد التشريعي.

ومع ذلك فإن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في كذب رئيس، بل في تطبيع الكذب ذاته داخل الحياة السياسية وتآكل الثقة بين المواطن الأمريكي ومؤسساته ما يُنذر بأزمات أعمق على المدى الطويل

إن الكذب السياسي حين يصبح سياسة رسمية يُفقد الشعوب بوصلتها الأخلاقية ويحوّل الديموقراطية من عقد اجتماعي قائم على الشفافية والمساءلة إلى مسرح كبير يتحول فيه الخداع  إلي خطاب رسمي

وعليه فإن ترامب لم يعد مجرد رئيس مثير للجدل، بل أصبح رمزًا لتحول خطير في بنية السلطة الأمريكية، يستدعي التوقف والتفكير، قبل أن ينهار ما تبقى من صورة أمريكا أمام شعبها وأمام العالم ، وقبل أن يزداد عدد ضحايا كذبه وابتزازه

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.