محمد نبيل محمد يكتب : السيرة السيناوية الجزء الثانى (العهد)
روايات البطولة خلف الخطوط .. الحلقة السادسة : خطة الفراخ البيضاء لتجنيدها فى القاهرة

بعد اللقاء الصادم على كورنيش النيل، والذى ترك أثره على ملامح الفتاة الشابة، التى لم تكن تتوقعه بالمرة، بل فجر هذا اللقاء تساؤلات مرعبة، ولم تجد لها حلول، ويحكى “خالد” عن والدته هذا الموقف الصعب :”… عادت لبيت اختها، بوجه غير الذى غادرتها به صباحا، وولم تسطع الفتاة الصغيرة تحمل الصدمة، فطلبت من اختها ان تتركها لترتاح فى غرفتها، لانه يبدو أن عناء السفر والزيارات المكثفة أمس الاول وامس قد عادوا عليها بالتعب والارهاق، وكان مما يبدوا ان اختها تفهمت الامر كذلك، مع منطقيته، وتركتها لتنال قسطا وفيرا من الراحة.
اختبأت الفتاة الصغيرة فى سريرها، معلنة الغرق فى بحر من التساؤلات، وتردد على اسماعها، كلمات التهديد التى اطلقها ناحية اسرتها فى العريش هذا الرجل بائع السميط، وتشككت فى الشيخ الذى كلب منها الذهاب للقاهرة، كيف له ان يكون معهم؟ هى لا تصدق على الاطلاق، انما الربط المنطقى بين الأحداث جعل رأسها الصغير يستسلم لفكرة الخوف، وسمعت فى داخلها كثيرا كلمة “الخوف” بل رددتها على لسانها مرات ومرات، وفجأة انتفضت من سريرها، وكأنها وجدت ضالتها، فقالت لنفسها: من الطبيعى جدا ان اقابل هذا الرجل فى السادسة مساء، لاننى لن استطع الفرار منه وكذلك اسرتى، كما اننى خائفة بالفعل منه ومما قاله، ومما انا مقدمه عليه فى كل الاحوال بموافقته لاقدر الله أو برفض طلبه واعاننى الله على ذلك، انتهت الفتاة بعد تفكير فى حتمية مواجهة الموقف وحسم أمرها، ويبدو ان تلك الفكرة هى المسيطرة الان عليها، وقد نالت قدرا كبيرا من الموافقة فى حوارها الذاتى مع نفسها، ومع اقتراب الميعاد، استأذنت من اختها ونزلت بحجة شراء بعض الاشياء من المسليات والفاكهة لزوم السهرة العائلية حول اغانى المذياع، وأنها ستعزم اختها وزوجها هذه الليلة.
وكانت تنزل درج السلم بهدوء وتروى وكأنها تستعيد من أعماقها تلك الشخصية التى قابلت “عيزرا” نفسه من قبل وانتصرت عليه وعلى سكرتيرته، وتهادت فى مشيتها أمام باب العمارة، واختارت من دقة الساعة السادسة أن تبدأ خطوتها الأولى متأكدة تماما من هذا الرجل سيراقبها لحين ان تتاح له الفرصة ثم يقترب منها، فأرادت أن تتركه هو يصنع فرصته ويجتهد فى الفوز بها بما يناسبه، فذهبت الى بائع الفاكهة، وانتقت بيدها ما اختارته مما استملحته من البرتقال والموز، ثم اتجهت الى مقلة اللب والفول السودانى وابتاعت ما ارادت، وهى تنتظر مجىء الرجل مع كل نفس، إلى أن وقف بجوارها أمام كشك المثلجات، وبادرها بالسؤال، وصلتى لايه يا “وداد” تظاهرت الفتاة ـ البارعة ـ بالرهبة والهلع من تهديداته لكنها قالت له: انت ما تعرفش السيناوية كويس دول لو عرفوا ان بنتهم بتخونهم مش يقتلوها دول يورونى عذاب انتوا لسه ما اخترعتهوش وما تعرفهوش، وكمان لو انت نفذت تهديدك باعتقال ابويا او اخويا مش مهم هما كدة ح يبقوا ابطال فى نظر السيناوية وتبقى قدمت للاسرة كلها خدمة مش ح ننساها لك، وكمان انت ما تعرفش المخابرات لو اكتشفت اللى انت طلبته منى ح يكون مصيرى ايه “المشنقة” فاهم يعنى ايه “المشنقة” وتباكت الفتاة عند تكرارها لمفردة “المشنقة” وتملكتها حالة من الرعب حتى فرط البرتقال من شنطته الى الأرض، وتظاهر الرجل بانه يلمم البرتقال وهو يتحدث معها محاولا اقناعها وتطمينها، فالتقطت الحديث منه بذكائها الفطرى وقالت: شوفت انتوا طيبين اد ايه معايا، وكل اصحابى فى العريش منكم وانا متاكدة انكم مش ح تأذونى ومش ناوين لى الضرر لانكم عارين اد ايه حبى لكم، واسال “ايفون” و”يهوديت” و”حنا” زهما يقولوا لك مين هى “وداد”… ثم تركت نظرات البرأة والخوف والاستسلام التى احاطت بها ضابط الموساد تفعل أفاعيل السحر فيه، فطمأنها انه لا يريد اذيتها وانه سعيد بعلاقاتها الطيبة مع الممرضات والمجندات الاسرائيليات ثم طلب منها ان تهدأ وتعاود التفكير بروية وسوف يقابلها فى العريش فيما بعد، واختفى الرجل فى ظلام الليل الذى أقبل عليها وانغمس فى ضباب تبخر مع صورته وصوته فيه… تنفست الصعداء ويبدو انها انتصرت ثانية ولو لنتصارا مؤقتا إلى حين تستجمع نفسها من جديد، فقد اقنعت الرجل بكل ما ارادت وخططت له.
كانت على يقين بأن أحدا ما مازال يراقبها، فظلت على حالة البكاء وتركت الخوف يصنع بملامحها ما يشاء، فلم تغادر فى حينها، بل انتظرت تتظاهر بأنها تمسح دموع الخوف واخرجت من حقيبة يدها الانيقة ـ البناتى ـ منديلا صغيرا من قماش عليه ورود حمراء صغيرة عند طرفيه وأخذت تمسح دموعها حتى لا تبدو باكية أمام اختها وزوجها، ثم أخرجت زجاجة عطر الياسمين التى تميزها، ومررت أصبعها النحيل على فوهتها ومسحت به خلف أذنيها، ثم حملت اكياس الفاكهة والمثلجات والمسليات وترجلت فى هدوء ناحية باب العمارة التى تقطن بها اختها وزوجها.
وفى سعادة تشى بنشوة الانتصار تحدثت للمرة الاولى مع زوج اختها عن ما تسمعه من بطولات ابناء سيناء ضد الصهاينة وانها تمنت ان تراه وزملاءه من الجيش المصرى مع السيناوية فى العريش ليخلصوا الوطن من دنس الصهاينة، كانت تتكلم كثيرا فى تلك الليلة وتحتضن اختها مرات عديدة حتى اقتربت منها والتصقت فيها كانت تريد ان تستجمع قواها من دفء العائلة، وبالحديث عن سيناء المنتصرة.
ذهبت فى الصباح من اليوم التالى الى السوق مع اختها لتتبضع لتجهيز غداء اليوم فهى قد وعدتهم فة مساء امس انها هى من ستعد للاسرة طعام الغداء باكر، واثار اهتمام اختها عندما رأت خبرتها النسائية فى انتقاء الخضار زاهى اللون وقطعة اللحم الملبسة وتركت الفراخ البيضاء وقالت لاختها: اليهود هرينا ومغرقنا بالفراخ البيضا، تخيلى يا أختى ديه بتصوصو، لسه كتكوتة، معقولة ندبحها مش يبقى حرام، وضحكت الفتاة الصغيرة وتعالت ضحكاتها فى سعادة غامرة، لما لا ؟! وهى المنتصرة على رجل الموساد، وقالت لاختها: احكى لك حكاية غريبة على الفراخ البيضا ديه، انتبهت الاحت الكبرى مصتنتة للحكاية، قالت “وداد” امبارح لما روحت اجيب شوية الفاكهة والتسالى لاقيت فرخة بيضا بتصوصو على جنب شكلها تايه ومش من هنا، روحت طبطبت عليها وقولت لها انت تايهة يا كتكوتة، لانها كانت شكلها كبير لكنها بتصوصو زى الكتاكيت، وجطيت ايدى على راسها وطبطبت عليها وقولت لها روحى للعشة بتاعتك لما تكبرى ابقى تعالى علشان ندبحك وناكلك، وانطلقت الفتاة فى موجة من الضحك العالى واختها تنظر اليها وتبتسم لسعادة اختها”.