نستكمل الحديث عن الصراع المسلح، حيث استعرضنا بداياته وتطوره من بدء التوتر، فنشوب الأزمة، مروراً بالعدوان، ثم الصراع المسلح كمرحلة من مراحل إدارة الصراع في إطاره الزمني، وكيف لجأت الدول لابتكار وتبني النظريات والاستراتيجيات المتباينة التي تتيح لها التفوق اللازم لكسب نزاعاتها وصراعاتها المختلفة، أو على الأقل توفر لها الحماية من الدول الآخري.
– ومن هذا المنطلق بدأت الدول في الاعتماد على ما تمتلكه قدرات وإمكانيات متفاوتة في بناء نظرياتها المتنوعة، ففى الماضي وعلى سبيل المثال كانت روسيا تعتمد على مساحتها الشاسعة وطقسها المتجمد، بالإضافة إلى قوتها الصلبة في صراعاتها المسلحة، فى حين عولت الولايات المتحدة الأمريكية على موقعها بين المحيطين الهادي والأطلنطى، وقدراتها الصناعية الجبارة، فضلا عن بحرياتها العسكرية والتجارية المتفوقة.
– وعقب القصف الذري الأمريكي لمدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، ذلك القصف الذي أدي باليابان العنيدة إلى الاستسلام وإعلان نهاية الحرب العالمية الثانية، فتغيرت الاستراتيجيات في العالم تغير حاد، بعد أن ظهر عامل جديد مرجح وفعال وحاسم لمعادلة الصراع بين دول العالم، فكان من البديهى أن ينشأ سباق تسلح محموم بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وبالطبع تبدلت الأفكار ثم النظريات فظهر لأول مرة ما يسمي بنظرية الردع، التي أدرجتها الدول الكبري ضمن استراتيجياتها في سبيل المحافظة على ميزان قوتها، ومنع الطرف الآخر من تهديد مصالحها.
– تعددت مفاهيم وتعاريف تلك النظرية الوليدة، وأبرزها ما طرحه برنارد برودي Bernard Brodie فى خريف عام 1945
بأنه حتى الآن كان الهدف الرئيسي لمؤسستنا العسكرية هو كسب الحروب، ومن الآن فصاعداً يجب أن يكون هدفها
الرئيسي هو تجنبها، بينما عرف جي سي ويلي JC Wylie الردع بأنه إجراءات لمنع الحروب بدلاً من تنفيذها،
باستخدام الوسائل النفسية بدلاً من الوسائل المادية، إذ أن قدرة الردع تعزّز الدفاع والعكس بالعكس، فى حين يعتبر
توماس شيللنغ Thomas Shelling أن الفرق بين الهجوم والردع هو الفرق بين الاعتداء والتخويف بالاعتداء، وهو أيضاً
الفرق بين الغزو والاحتلال من جهة والمساومة من جهة أخرى، كما يعتبره نوع من التسوية للوصول إلى اتفاق يكون
فيه وضع الخصم أفضل من وضعه إن لم يتجاوب مع الردع، وكذلك يقول خليل حسين: ترتكز نظرية الردع في أبسط
أوجهها على التهديد التالي، الذي يهدف إلى ردع دولة ما عن العدوان، وذُكر الردع ضمن موسوعة علم العلاقات
الدولية على أنه عبارة عن “استراتيجية يُهدد بموجبها الطرف الأول، بإنزال عقاب قد يقنع الطرف أو الأطراف الثانية بأن
تكلفة العمل العدائي الذي يراد القيام به سيفوق بأي حال من الأحوال النتائج التي قد تترتب عليه”.
– واجمالاً يمكن القول بأن الردع هو مجموعة الاجراءات والأعمال التي تتخذها الدولة بغرض عدم تحفيز الدول على
القيام بالأعمال العدائية ضدها، وأن اللجوء إلى الطرق السلمية والتفاوض هو الأنسب لها خوفاً من تلقي العقاب
الصارم، أو أن كُلفة العمل المعادي ستكون باهظة. (وللحديث بقية)