” رصاصة واحدة ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

الإعلامي محمود عبد السلام
فجأة قفز الى ذهنى ان اطلب منه مسدسه ، عم حموده … عم حموده ، كررتها إثنتين ، قطع كلامه ونظر الى وهو يكمل حديثه
ناديته مرة ثالثة عم حموده .. أجابني وهو يبتسم ، عايز ايه ( يا غلباوى )
، تصنعت البراءة وخفضت صوتى حتى يتعاطف معى ويلبى طلبى
عم حموده عايز المسدس بتاعك
عمى حموده يأتينا كل عام ، يحمل الينا اخبار قريتنا ، وزيارة مكونة من الفطير والجبن والسمن والعسل والعيش الشمسى والعيش المرحرح ، تفوح رائحة الزيارة من القفة المغطاة بقماش ابيض خُيِطْ بإحكام بأطراف القفة ، نستقبل عمى بفرحة غامرة ، يخرج محفظته يناول ابى بضع جنيهات قليلة أجرة كام قيراط تبقوا من إرث جدى ، كل عام يبيع ابى جزءاً من ارضه راضياً ليكمل تعليمنا ، وقبل ان يعيد محفظته الى جيب الصديري يمنح كل واحد من اخوتى عشرة قروش ورقية جديدة ، بعين ثاقبة المح مسدس عمى حموده فى الحمالة الجلد التى بين الصدر والذراع ، انظر الى طوله الفارع وصدره العريض وسلاحه النارى ، اشعر بالامان ، واطرد من عقلى حكايات العفاريت وخوفى من لصوص الليل ، يشعل سيجارة ويجلس على كرسى الصالون بجوار الشرفة ، ويجلس ابى امامه ، وبينهما على المنضدة التى تتوسط الصالون ، اكواب الشاى ومطفأة تبغ ، وجريدة الاهرام ، الصور القادمة من الجبهة فى صدر الصفحة الاولى للجريدة تشى ان القتال على الجبهة ضارى ، على الجانب الأيسر من الصفحة الاولى عنوان بارز ، احاول قراءته ، يستعصى علىّ قرائته ، اسأل ابى يجبيني بسرعة خاطفة ( بصراحة ) يعاود ليكمل الحديث مع عمى حموده ، السلع فى قريتنا غير متوفرة والاسعار اصبحت نار ، كيلو اللحمة وصل سعرة الى جنيه كامل ، ويستكمل عمى ، والسكر والدقيق شحيح ، ( والكوبونات ) بتاعت الجاز بيصرفوا نصفها فقط ونكمل بقية الشهر نطهو الطعام على اعواد الحطب الجافة ، وكهرباء السد العالى لا تصلنا بانتظام ، اغلب الليالى نقضيها فى ظلام دامس ، كل ده يهون ، لكن الناس كلها مكسوره ، مبتوره ، الضحكة تخرج على استحياء ، فى الليالى الطويلة نجلس امام الدار نمضى الوقت فى حصر الشهداء من شباب القرية ،….مات وتركنا بعد ما ورطنا … ، ست ايام قلبت الدنيا رأساً على عقب ، زلزال دمر كل شئ ،
اقاطعه .. عم حموده ادينى المسدس ألعب بيه شويه
يفرغ مسدسه من الرصاصات ، ويسحب طلقه ، ويشهر مسدسه فى الهواء ناحية الشرفة ، ويضغط على الزناد ،
يتأكد ان ماسورة المسدس نظيفة ، يعطينى المسدس وهو مطمئن ، اجرى نحو امى وانا احمله بكلتا يداى ، ارفعه
نحوها ، تفزع وتنهرني ، اضحك من كل قلبى ، يهتز جسدى بعنف ، اقف فى النافذة و بحيث يرانى اصدقائى وانا
احمل المسدس ، ينظرون الى باندهاش ( مسدس حقيقى ده يا جمال ) اقسم لهم بانه حقيقى لكنهم يسخرون منى ،
اجرى نحو عمى حموده اطلب منه رصاصة اضعها فى المسدس واطلقها نحو اصحابى حتى يتأكدوا انه مسدس
حقيقى
الجنازة كانت مهيبة ، الجميع يبكى الضياع والخوف من الغد ، بكوا كما لم يبكوا من قبل ، النعش ملفوف بعلم الوانه
بيضاء وسوداء وحمراء ، يحمله جنود بدون سلاح
جلس ابى وعمى حموده امام شاشة التلفاز ، المح فى عيونهم دموع الرجال الاشداء ، يودعون املاً قد خاب ، يوارى
امام اعينهم التراب ، ها هو الامل الخادع يرفع يده يلقى عليهما تحية الوداع الاخير
ماذا لو ترك لى عمى حموده مسدسه ؟
عند الباب قبل ان اودعه أسأله متى تعود يا عمى ؟ بصوته الأجش ولكنته الريفية يجيبنى ، يا عالم يا جمال مين
يعيش ، فى احد الليالى المظلمة فى قريتنا ، غافل احد الثعابين عمى ولدغه ، تناول عمى حموده الفأس وفصل
رأس الثعبان عن جسده ، لكن السم قد سرى فى الجسد الفارع حتى وصل الى القلب ، مات بلدغة ثعبان خسيس
، فى جنازته بكيت وبكى ابى وبكت قريتنا ، وعدت الى الدار ابحث عن مسدسه لعلى اجده ، واجرب ولو لمرة ان
اطلق منه رصاصة …رصاصة واحدة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.