الدكتور هيثم الطواجني يكتب : قراءات في المشهد الأوروبي ( 4 ) 

الدكتور هيثم الطواجني

نستكمل الحديث عن التغييرات السياسية بالقارة الأوروبية في إطار الصراع الروسي – الأوكراني الذي يمر بمنعطف حاد، وذلك في ظل ما أسمته كييف بعملية شبكة العنكبوت، ذلك الهجوم غير النمطي الذي أوقع بالقوات الجوية الاستراتيجية الروسية خسائر فادحة وفقاً لما أعلنته أوكرانيا.
– تُعتبر هذه المعركة نقلة نوعية في الصراع المندلع منذ أكثر من ثلاث أعوام بين دولتين كانتا يوما دولة واحدة، ففي التاريخ الحديث لم يسبق لأي من الاطراف المتصارعة استخدام وسائل غير اعتيادية لتدمير أهداف تقليدية، فمنذ فجر التاريخ حرص المخطط العسكري علي تحقيق الحشد الكافي للقوات والوسائل، وتوفير التفوق النوعي والكمي كلما أمكن، دون إغفال باقي مبادئ الحرب من مفاجأة ومبادأة وخفة حركة ومناورة وتدريب وتجهيز، الا أن اللافت للنظر هو تكبد الخسائر لكل الأطراف المتصارعة، بغض النظر عن المنتصر والمهزوم، فكلاهما يوقع الخسائر بالطرف الآخر، ولكن بدرجات متفاوتة، تعتمد في المقام الأول علي ما يمتلكه كل طرف من أفكار واستراتيجيات وأدوات ووسائل وعوامل أخري كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
– وكما غيرت القوات البحرية المصرية قواعد الاشتباك البحري العالمية حين تم إغراق المدمرة ايلات أكبر قطع الاسطول البحري الاسرائيلي تسليحاً وقدرة على الازاحة في البحر، بواسطة لنشي صواريخ تابعين لقاعدة بورسعيد البحرية، وتسليح كل لنش صاروخين فقط، وقد كان من المعروف أنه لكي تغرق قطعة بحرية فلابد من مهاجمتها بقطعتين أو ثلاث، وربما أكثر طبقاً للإمكانيات المتاحة، علي أن تفوقها في القدرات والتسليح، أو تكافئها على الأقل، وفيما بعد هذه العملية الجريئة أصبحت البحريات العالمية قادرة على التعامل مع الاهداف الكبيرة بالوسائل الصغيرة المتيسرة، وبعد أكثر من 58 عام أعادت كييف التجربة المصرية ولكن بشكل مختلف.

– ولعل التفاصيل الكاملة لعملية شبكة العنكبوت لم تتضح بعد، ولكن مما نشر تظهر عدة دلائل أراها مهمة جداً أبرزها

هو قدرة الوسائل غير النمطية على إحداث الفارق ولو بمقدار، دمج التقنيات الحديثة بالوسائل التقليدية، اثبات قدرة

كييف على الوصول إلى العمق الروسي المترامي الأطراف فروسيا أكبر بلاد العالم من حيث المساحة إذ تبلغ

مساحتها 17 مليون كم2، وليس النفاذ فحسب بل والتأثير ايضاً على الأهداف المخططة، اختراق الامن القومي

الروسي بشكل غير مسبوق فلكي تتمكن كييف من إدخال هذا العدد من الطائرات بدون طيار، وإخفائها عن أنظار

رجال الأمن الروسي الداخلي إلي حين التنفيذ ليعد عملاً ناجحاً بكل المقاييس، القدرة على رصد الأهداف المخطط

استهدافها بكل دقة يعد خصماً وانتقاصاً كبيراً من قدرات المخابرات العسكرية الروسية علي تأمين المؤسسة

العسكرية الروسية الضخمة جداً.

– ربما لن تؤثر هذه العملية على مسار الصراع ونتيجته بشكل مباشر، ولكنها بالتأكيد ستجعل الطرف الروسي أكثر

مرونة في المفاوضات، بينما على كييف وباقي العواصم الأوروبية الداعمة لها اتخاذ اجراءات الحيطة والحذر تحسباً للرد

الانتقامي الروسي.

– من المرجح أن أغلب قادة العالم من العسكريين والأمنيين يراجعون ويدققون كافة خطط التأمين في بلدانهم، بل قد

يُعاد النظر مرة أخري في السياسات الأمنية وإجراءات التأمين للأهداف الحيوية العسكرية منها والمدنية على حد

سواء، فلا يبدو اليوم أن أي هدف حيوي أو منشأة ذات أهمية خاصة بمنأى عن الاستهداف سواء كان بالقوات

والوسائل النمطية أو غير التقليدية التي وضح جلياً أنها باتت في متناول الأجهزة الكبري والصغرى والكيانات الشرعية

وغير الشرعية، فمن يمتلك التقنيات الحديثة بات هو المسيطر والمهيمن على مجريات الأمور في كوكبنا المليء

بالصراعات وللحديث بقية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.