الدكتور هيثم الطواجني يكتب : قراءات في المشهد الأوروبي (3 )

الدكتور هيثم الطواجني

نستكمل الحديث عن التغييرات السياسية بالقارة الأوروبية في إطار الصراع الروسي – الأوكراني الذي ألقي بظلاله على المسرح السياسي العالمي مجسداً لحالة الاستقطاب الدولي الحادة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، والمعسكر الشرقي بقيادة روسيا وريثة الإتحاد السوفيتي السابق والدول الداعمة وأبرزها الصين.

– وفي تغير نوعي حاد قامت أوكرانيا يوم 1 يونيو الجاري بهجوم فعال وغير نمطي مستهدفة القواعد الجوية الروسية (بيلايا – ايفانوفو – دياجيليفو – اولينيا – امور)، حيث تقع قاعدة بيلايا في إيركوتسك في شرق روسيا بمسافة 4500 كيلومتر من حدود أوكرانيا مع روسيا والتي تعتبر أقرب إلي اليابان، بينما توجد قاعدة دياجيليفو في ريازان غرب روسيا، على بُعد حوالي 520 كيلومتر من أوكرانيا، فى حين أن قاعدة أولينيا توجد على بُعد أكثر من 2000 كيلومتر من أوكرانيا بالقرب من مورمانسك الواقعة في الدائرة القطبية الشمالية، بالإضافة إلى قاعدة إيفانوفو الجوية الواقعة شرق موسكو وعلى مسافة أكثر من 800 كيلومتر من أوكرانيا، و قاعدة دياجيليفو جنوب موسكو، وذلك باستخدام الطائرات بدون طيار من داخل الأراضي الروسية متجاوزة شبكات الدفاع الجوي التي تدافع عن السماء الروسية والأخرى التي تحمي القواعد الجوية، وعناصر الامن والاستخبارات، بل وحتي رجل الشارع البسيط.

– وهناك مقطع مرئي يظهر طائرة أوكرانية بدون طيار تحلق من سقيفة خشبية مُحمّلة على شاحنة، بينما يتصاعد الدخان في الخلفية، كما تُظهر الصور اعداد أخري من الطائرات مكدسة داخل ما يبدو على أنها صناديق خشبية ذات أسقف قابلة للطي استعداداً للعملية، ولقد اعترف الجانبان بالهجوم، حيث بادرت موسكو بالتقليل من شأن الهجوم مع التوعد بالرد القاسي، في حين غالت كييف في تعظيم أثار هذا الهجوم.

– وبنظرة فاحصة لهذه العملية النوعية نجد أن هناك عدة نقاط بالغة الأهمية، لعل أبرزها هو تجسيد مفهوم حروب الجيل السادس الذي أبتكره الجنرال الروسي سيبليتشنكو والذي يتمحور حول إنتاج واستحداث أنظمة ذكية لحصد نتائج ذكية، فهذا المفهوم الروسي الأصل أستخدمه الغرب وطبقه على روسيا، فلو سلمنا بما أعلنته أوكرانيا من ان الخسائر المادية للقوات الجوية الاستراتيجية الروسية أحد أدوات الردع الروسي، والمقدرة بـ 7 مليار دولار، فمن المؤكد أن تكلفة هذه العملية أقل بكثير جداً من لو استخدمت أوكرانيا الوسائل التقليدية، ولا أبالغ إذا ما قدرت الرقم بأقل من مليون دولار أو أزيد قليلاً، حيث يذهب الجزء الأكبر منه إلى التدريب، وجمع المعلومات، وتمهيد مسرح العمليات بالأراضي الروسية، فضلاً عن فشل المنظومة الأمنية والاستخباراتية الروسية في التنبؤ بهذه العملية، والتي تنبأ بوجود أطراف معادية تعمل من الداخل الروسي، والأهم من وجهة نظري هو ضرب الاستراتيجية الدفاعية الروسية التي ترتكز على عدة مبادئ منها الردع النووي – القوات التقليدية – الدفاع الجوي والصاروخي – الحرب الالكترونية والاستخبارات – التركيز على الأمن القومي، فمع اعتناق القوات الروسية لهذه الاستراتيجية التي تتبناها منذ خمسينيات القرن المنصرم، التي تبدو وكأنها انهارت في مواجهة مجموعة من الطائرات الموجهة غير المأهولة، تحتاج روسيا الان لتغيير شامل لاستراتيجيتها الدفاعية فلم تعد وسائل الحرب التقليدية كالدبابة والمدفع والطائرة المقاتلة وحدها كافية لحماية الأمن القومي الروسي، ويتبلور التحدي في تعديل هذه الاستراتيجية في تغيير الفكر الاستراتيجي التقليدي، بينما يمكن تدبير الموارد المالية اللازمة، في حين يأخذ تدريب العناصر الروسية المزيد من الوقت لاستيعاب الفكر والوسائل الجديدة ودمجها بالوسائل التقليدية، في حين ان كييف نجحت في استخدام وسائل ذكية غير اعتيادية رخيصة الثمن لإخراج ما يقرب من ثلث القوة الاستراتيجية الجوية الروسية من الخدمة دون خسائر مادية أو بشرية أوكرانية تذكر وللحديث بقية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.