الكاتب الصحفي محمد يوسف العزيزي يكتب: مصر من التهديد إلى التمكين.. هي دي الحكاية!

لأنها بالفعل حكاية .. كان لازم نحكيها بالطريقة دي وبالأسلوب ده ونطرح السؤال علشان نبدأ الحكاية .. هو ليه مصر دايما في عين العاصفة ؟ وليه بنقول عليها “الجائزة الكبرى” ؟
بالمناسبة السؤال ده مش جديد، لكن الإجابة عليه محتاجة شوية تأمل في التاريخ والجغرافيا والسياسة كمان.. مصر مش دولة عادية على الخريطة .. دي قلب المنطقة العربية ، والمنطقة دي نفسها قلب العالم ، وزي ما الجغرافيا السياسية بتقول ، اللي بيسيطر القلب، بيقدر يتحكم في الجسد كله ، ومن هنا، بدأت الحكاية اللي لسه فصولها مستمرة لحد اليوم والساعة والدقيقة !
من سنين طويلة وفي قوى إقليمية ودولية بتتحرك بكل أدواتها السياسية والعسكرية والاقتصادية علشان تتحكم في هذا القلب ، ولما لقيت إن مصر عقبة صلبة قدام مشروعها بدأت تشتغل على محيط مصر، مش عليها مباشرة فزرعت الكيان الصهيوني في قلب المنطقة واشتغلت على تأسيس “طوق نظيف” للكيان ده .. طوق خالي من الجيوش النظامية ومن المقاومة ، ومن الإرادة المستقلة ، ومن الدول الوطنية.. ولازم الطوق ده يبقى هش وضعيف ومفكك علشان يضمن للكيان مجال حيوي آمن يقدر يتحرك فيه بحرية، ويوسع نفوذه بدون تهديد حقيقي !
ومن هنا بدأنا نشوف اللي حصل .. وكانت البداية مع العراق بعد سقوط صدام وأول قرار للحاكم العسكري ” بريمر ” بتفكيك الجيش العراقي ، واللي حصل في ليبيا لما تدخل الناتو وأسقط الدولة وفتح الباب لحرب أهلية بعد تفكيك مؤسساتها وطبعا على رأسها الجيش ، واللي حصل في سوريا، بدفع جماعات إرهابية من كل مكان حولت الأراضي السورية لساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية ، ووصلت الآن إلي ما وصلت إليه دولة تتقاسمها نفوذ ثلاث قوي إقليمية بلا حرب تقليدية
واللي حصل في السودان اتزرعت بذور الانقسام والفوضى، واتحولت الدولة لمساحة مفتوحة للصراع الأهلي والعسكري وجاهزة للتقسيم، أما في الخليج تجمعت القواعد العسكرية والأساطيل البحرية علشان تحاصر القرار العربي وتبقيه تحت السيطرة بأدوات عربية !
بالتأكيد كل ده مش وليد صدفة ، ولا نتيجة فوضى تلقائية حتي لو كانت بفعل ثورات الربيع العبري.. دي خطوات مدروسة لتفريغ المنطقة من أي قوة حقيقية لتسهيل السيطرة على الجائزة الكبرى مصر !
لكن مصر كانت شايفه الصورة من بدري وفهمت إن موجة التفكيك دي مش بعيدة عنها، وإن الحماية الحقيقية مش بالكلام ولا بالشجب، لكن ببناء القوة الشاملة.. وعلشان كده الدولة خدت قرار استراتيجي ببناء جيش حديث قوي ومرن ومتعدد القدرات .. وما اكتفتش بتطوير الأسلحة التقليدية لكنها توجهت لامتلاك قدرات نوعية غيرت موازين الردع في المنطقة زي الرافال الفرنسية، والغواصات الألمانية، والفرقاطات، وحاملات المروحيات الميسترال، كلها ما كانتش مجرد صفقات سلاح لكنها رسائل واضحة إن الجيش المصري بيستعيد مكانته كأقوى قوة نظامية في الشرق الأوسط وقوة الردع الباقية في وجه التهديدات والعقبة في اكتمال الطوق النظيف اللي الكيان بيحاول يكمله
كتير من الناس كانوا ييتسأءلوا : ليه مصر بتصرف المليارات على التسليح.. وليه بتعيد هيكلة جيشها بالكامل.. وليه بتشق طرق في الصحرا ومفيش فيها بشر.. وليه.. وليه؟
النهار ده الإجابة أظن بقت واضحة اللي بيحصل حوالينا ، واللي اتكشف من مؤامرات واستهداف بيؤكد إن مصر كانت بتجهز نفسها للزمن الصعب، وإن القرارات اللي اتاخدت ماكانتش رفاهية ولا مغامرة .. لكنها كانت ضرورة وجود، وخط دفاع عن الدولة مش بس من الإرهاب لكن من الفوضى والانهيار.
ولسه الحكاية ممتدة .. في نفس الوقت الدولة فتحت ملفات مسكوت عنها بقالها سنين (بقرار داخلي أو خارجي !) وأهمها ملف تعمير وتنمية سيناء.. الأرض اللي تم تهميشها عمدًا وتركها كمنطقة عازلة – يمكن الضغط علي مصر بها زي الي حاصل حاليا – بدل ما تكون جزء حقيقي من التنمية.. مصر بدأت تربط سيناء بباقي الجمهورية بشبكة طرق وأنفاق ومحاور، ودفعت باستثمارات ضخمة في الزراعة والصناعة هناك، وده مش بس علشان تحمي الأرض، لكن علشان تخلق مجتمع تنموي مستقر يصعب اختراقه أمنيًا !
كمان مصر اشتغلت على ملف مهم جدًا في الأمن القومي هوالغذاء لأن استقلال القرار السياسي مستحيل من غير استقلال في الغذاء.. وبدأت خطة كبيرة لزيادة إنتاج القمح ووصلنا اليوم لإنتاج يغطي أكتر من 60% من الاحتياجات، والدولة بتسعى توصل 80 % .. ده مش مجرد رقم في إحصائية .. ده ترجمة لفكرة “الدولة التي تأكل مما تزرع”، وبالتالي تملك قرارها وتقرر مصيرها بعيدا عن أي ضغوط !
ولسه الحكاية في السياسة الخارجية.. مصر خرجت من أسر التبعية وبدأت تتحرك بسياسة قائمة على التوازن فلا انحياز كامل لأي محور، ولا خصومة مجانية مع أي طرف .. العلاقات اتسعت مع روسيا ، وتطورت مع الصين ، واستمرت مع أمريكا، لكن على قاعدة المصالح المشتركة مش الإملاءات.. ومصر بدأت تلعب دور الوسيط والفاعل الإقليمي بعقلانية لحساب أمنها القومي أولًا، من غير ما تتخلى عن عمقها العربي والإفريقي.
واللي لازم يتفهم بوضوح هو إن كل اللي مصر عملته خلال السنين اللي فاتت، ما كانش رد فعل لأزمات .. كان رؤية استراتيجية اشتغلت الدولة عليها بإصرار، رغم الصعوبات، ورغم الضغوط، ورغم تحمل الشعب فاتورة باهظة، ورغم حملات التشويه !
والنهارده وإحنا شايفين دول حوالينا سقطت ، أو تآكلت من الداخل ، أو وقعت تحت وطأة التبعية، بنفهم ليه مصر اختارت تبني جيشها، وتزرع أرضها، وتوسع علاقاتها، وتواجه ملفاتها الصعبة بنفسها وهي شايله كل الحمل ده !
هي دي الحكاية ببساطة .. حكاية شعب قرر ما ينساش مصيره في إيد غيره.. لكنه يصنعه.. وحكاية بلد اختارت تبقى واقفة على رجليها مهما كانت التكلفة.. حكاية مصر اللي بتحمي حدودها بقوة، وبتكتب سطور صمودها رغم كل الحاصل حواليها !