الكاتب الصحفي محمد يوسف العزيزي يكتب: من حصار العقوبات إلى كعكة الثروات.. سوريا تدفع الثمن!

فرض العقوبات الاقتصادية ظلّ لعقود – وما زال – أداة رئيسية في يد القوى الكبرى لمعاقبة الدول الخارجة عن طوعها، ووسيلة ضغط يتم استخدامها في التوقيت الذي تراه مناسبًا لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.. إلا أن الوجه الآخر لهذه العقوبات لا يقل خطورة.. إذ يتحوّل أحيانًا إلى أداة ابتزاز علني تفرضها القوي الكبرى وقت تشاء – لأي أسباب – وترفعها وقت تشاء وفقًا لحسابات المصالح لا حسابات المبادئ!
لم تأتِ خطوة رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن سوريا فجأة كما بدت على السطح، بل جاءت بعد حسابات دقيقة وضعتها العواصم الغربية انطلاقًا من مصالحها المتشابكة في المنطقة وليس بدافع أخلاقي أو إنساني كما يحلو للبعض أن يروّج أنها تمت بوساطة خليجية أو من أجل عيون قادة الخليج..
فرغم أن هذه العقوبات امتدت على مدى أكثر من أربعة عقود، وتوسعت بشراسة مع صدور قانون “قيصر” خلال الحرب السورية، إلا أن واشنطن قررت في لحظة سياسية محسوبة أن تفتح البوابة المغلقة لتعود إلى الساحة السورية من باب الاستثمار والمصلحة وليس المصالحة!
في جلسة محسوبة سرا – لكنها مفاجئة علنا – تطابقت فيها مصالح الولايات المتحدة ودول الخليج التي زارها ترامب، وبحضور “جولاني سوريا”، رفع ترامب العقوبات الأمريكية عن سوريا، بما فيها بعض العقوبات التي تعود إلى أكثر من أربعة عقود منذ حكم حافظ الأسد ، وامتدت لاحقًا لتشمل العقوبات التي فُرضت في عهد بشار الأسد، وعلى رأسها قانون ” قيصر” الذي كان بمثابة الحبل الخانق للاقتصاد السوري ، وبعدها بثلاثة أيام فقط يفعل الاتحاد الأوروبي الخطوة نفسها، ويرفع العقوبات التي ظل يتمسك بها لعقود تحت ذرائع تتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان ورفض التسوية السياسية في سوريا
تقف وراء هذا التحوّل المفاجئ في السياسة الغربية ثروات سوريا الهائلة من الغاز والنفط والمعادن، والتي لم يُسمح لها بالخروج إلى النور طوال فترات حكم حافظ الأسد، واستمر الحظر العملي عليها حتى ما بعد اندلاع الأزمة.. ولكن تغير قواعد اللعبة الدولية واشتعال الصراع على مصادر الطاقة جعل من سوريا هدفًا استراتيجيًا يصعب تجاهله سواء من الولايات المتحدة أو من أوروبا
كما أن هذا التحول يكشف عن ازدواجية صارخة في المعايير، فبينما يستمر الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات بلا هوادة على روسيا.. لم يجرؤ أن يفرض ولو لمرة واحدة على الكيان الصهيوني أي نوع من العقوبات رغم ممارساته المستمرة للإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، واعتداءاته المتكررة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، واقتضامه اليومي لما تبقى من الجغرافيا الفلسطينية!
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة : هل رفع العقوبات عن سوريا جاء من منطلق إنساني لإتاحة الفرصة أمام شعبها ليعيش في وطن مستقر، ويعيد بناء ما دمرته الحرب ليستعيد دورة في الحياة الطبيعية .. أم أن خلف هذا القرار مصالح كبرى تتعلق بثروات باطن الأرض السورية من غاز ونفط ومعادن استراتيجية وأصبح من الملائم اليوم فتح الباب أمام تقاسمها تحت غطاء إعادة الإعمار؟
الواقع أن الاقتصاد العالمي يعيش حالة من التراجع والركود، والشركات الغربية لا سيما الأمريكية والأوروبية تبحث بشغف عن أسواق جديدة وصفقات ضخمة تعيد لها النمو والأرباح.. فجاءت سوريا المنهكة اقتصاديًا والمحتاجة إلى مئات المليارات لإعادة الإعمار، تمثّل فرصة مثالية لتكون ساحة استثمار كبرى بشرط أن تكون تحت إشراف سياسي وأمني أمريكي أوروبي يضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة!
وما كان محرّمًا بالأمس أصبح مباحًا اليوم تحت عنوان “إعادة التعافي” في ظل تحوّل واضح في الموقف الدولي من الرئيس السوري نفسه الذي كان إلى وقت قريب مطلوبًا للعدالة وتم رصد مكافآت بملايين الدولارات لمن يرشد عن مكانه، ثم إذا به يتحول اليوم إلى “طرف شرعي” في المعادلة الإقليمية الجديدة، وتزداد الأمور وضوحا بتصريحات السفير الأمريكي الذي قام بتأهيل ” الجولاني ” للسياسة وإعداده لهذه اللحظة في الوقت الذي كان مطلوبا فيه للعدالة!
وبذلك تصبح العقوبات أداة مؤقتة يفرضها الغرب (أمريكا وأوروبا) حين يريد أن يعاقب ويرفعها حين يرى في رفعها فرصة للمكاسب.. أما الشعوب فلا تملك إلا أن تدفع الثمن في الحالتين.. ثمن الحصار، وثمن الابتزاز والاستغلال !
بلا شك التطورات الأخيرة تكشف بوضوح أن العقوبات ليست أداة لتحقيق العدالة بل وسيلة لصياغة مشهد دولي جديد يتماشى مع مصالح الكبار، وأن حقوق الإنسان والديمقراطية ليست إلا شعارات تُستخدم عند الحاجة ويتم التغاضي عنها عندما تتعارض مع المصالح.. ورفع العقوبات عن سوريا لم يكن إلا جزءًا من إعادة توزيع النفوذ في المنطقة وترتيب أوراق الثروة والسلطة في زمن تعيد فيه القوى الكبرى حساباتها من واقع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والتحولات الجيوسياسية المتسارعة!