محمد نبيل محمد يكتب: قناة السويس العبور الدائم والتدخل المستحيل
قناة السويس منذ 3324 عامًا بين سنوسرت الثالث وأبو جعفر المنصور

قناة السويس فكرة اقتصادية وعمرانية فكَّر فيها المصريون القدماء بهدف ربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، و ذلك لتميّز موقع مصر المتوسط بين قارات العالم القديم.
قناة الملك سنوسرت الثالث عام 1874 ق.م
فى عهد سنوسرت الثالث – أحد فراعنة الأسرة الثانية عشر ( 1887 – 1849 ق. م) – تحققت على يديه شق قناة تربط البحر المتوسط و البحرالأحمر وذلك في سنة 1874 ق.م، وكانت السفن القادمة من البحر الأبيض تسير في الفرع البيلوزي و هو أول فرع من فروع النيل شرقًا، وكان النيل له سبعة فروع آنذاك حتى اتصل إلى بوبست ” تل بسطة ” في الزقازيق حاليًا، ثم يتجه شرقًا إلى يتخاو ” أبو صوير ” فتصل إلى البحيرات المرة التي كانت في ذلك الحين خليجًا متصلًا بالبحر الأحمر، واستمرت قناة سنوسرت الثالث تقوم بعملها مدة طويلة حتى امتلأت بالأتربة والرمال وكان اسمها “قناة سيزوستريس”.
قناة سيتي الأول عام 1310 ق.م
قام الملك “سيتي الأول” – والد الملك رمسيس الثاني – عام 1310 قبل الميلاد، بحفر القناة ولكن من أجل ربط النيل بـالبحر الأحمر.
قناة نخاو عام 610 ق.م
في سنة 610 ق.م حاول الفرعون نخاو الثاني إعادة الحياة مرة أخرى إلى القناة وكرس جهوده ونجح بالفعل في وصل النيل بالبحيرات المرة، ولكن محاولاته لوصل البحيرات المرة بالبحر الأحمر لم تكلل بالنجاح.
قناة دارا الأول عام 510 ق.م قناة الفرس
حكم مصر دارا بن حتشوشب ملك الفرس في سنة 510 ق.م وأعطى كل اهتمامه للقناة إذ كان الطريق إلى فارس يجتاز وادي الطميلات، ويسيربمحاذاة القناة التي شقها نخاو الثاني فأصر دارا باستمرار الحفر فيها وتطهيرها, ثم حفر عدة قنوات صغيرة تربط البحيرات المرة بالبحر الأحمر، ولكن هذه القنوات لم تكن صالحة للملاحة إلا أثناء فيضان النيل.
قناة البطالمة بطليموس الثاني عام 285 ق.م
نجح بطليموس الثاني في سنة 285 قبل الميلاد في إعادة الملاحة في القناة وتغلب على كل الصعاب التى اعترضت سابقيه، فقد أمر بطليموس بحفر الجزء الواقع بين البحيرات المرة والبحر الأحمر ليحل محل القنوات الصغيرة ، فأصبحت قناة السويس تصب بجوار ميناء كليسما “الاسم الإغريقى لمدينة السويس ” وعادت رياح الإهمال تهب على القناة مرة أخرى عندما بدأ الضعف يدب في دولة البطالمة حتى أهملت القناة وتجمعت الرواسب والطمي والرمال في أماكن عديدة.
قناة الرومان (راجان) عام 117 ق.م
قام الإمبراطور راجان عام 98 ميلادية بحفر وصلة جديدة عرفت بقناة راجان، وكانت الوصلة تبدأ من بابليون “القاهرة” عند فم الخليج حتى العباسية لتصل بالفرع القديم الذي يصل بوبستا بالبحيرات المرة غير أن القناة أهملت من جديد في عهد البيزنطيين، فقد تركوا التراب يطغى عليها وأصبحت غير صالحة للملاحة على الإطلاق.
قناة أمير المؤمنين 640 م
بعد الفتح الإسلامى لمصر قام عمرو بن العاص بفتح قناة ملاحية تصل بين الفسطاط والقاهرة ومدينة القلزم ” السويس ” وأطلق عليها اسم قناة أمير المؤمنين، واستمر الحفر فيها لمدة ستة شهور، تنفيذًا لأوامر الخليفة عمر بن الخطاب، وفي رواية للمقريزي أكد أن السفن استطاعت أن تصل من الفسطاط إلى القلزم (السويس) ومنها إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة بعد أقل من عام على الفتح، وذكرت بعض المصادر أن عمرو بن العاص فكر في وصل البحرين الأبيض والأحمر، لكن الخليفة عمر منعه من ذلك، واكتفى بتجديد قناة فرعون التي كانت تمتد بطول مائة وخمسين كيلو مترًا, ومجد الفيلسوف والشاعر الفرنسي المعروف فوليتير فضل عمر بن الخطاب على الملاحة بتجديده لهذه القناة الحيوية التي استمرت في العمل حوالي مائة وخمسين عامًا حتى أوصدها عند نهايتها أحد الخلفاء العباسيين سنة 159هـ – 775م وهو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي أمر بردمها في نهاية القرن الثامن كي لا تستخدم في نقل المؤن إلى أهل مكة والمدينة الذين تمردوا على حكمه, ومنذ ذلك التاريخ لم تكن سوى محاولات متواضعة لإعادة المجرى الملاحي باءت جميعها بالفشل حتى عام 1856م.
محاولات المماليك والإيطاليين
من الجدير بالذكر أن الإيطاليين أوعزوا إلى المماليك شق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط لمنافسة طريق رأس رجاء الصالح البحرى، ولما علم البرتغاليون بذلك هددوا المماليك بالاتفاق مع الأحباش على تحويل مجرى مياه النيل عن مصر إلى البحر الأحمر وكانت المنافسة التجارية محتدمة بين القوى الكبرى منذ القرن الخامس عشر للوصول إلى طرق مؤدية من أوروبا إلى المشرق (بلاد الهند وجنوب شرق آسيا) لقطع الطريق على الوسطاء المسيطرين على هذه التجارة وهم الإيطاليين بصفة خاصة الذين كانوا يجلبون البضائع القادمة من المشرق – والتي تباع في أسواق مصر- إلى أوروبا حتى أن اكتشاف العالم الجديد جاء مصادفة في خضم المحاولات لاكتشاف طريق جديد للهند لا يمر بطريق البحر الأحمر- مصر – البندقية وجنوة، وبالفعل اكتشف البرتغاليون طريق رأس رجاء الصالح سنة 1488م مما أدى إلى تحول طريق التجارة عن مصر، و إلى انهيار دولة المماليك في مصر (1517م) و اضمحلال ممالك جنوة والبندقية الإيطاليتين.
ظلت القوى الكبرى تسلك طريق رأس رجاء الصالح للوصول إلى الهند وتبادلت الغلبة في أعالي البحار، أولهم البرتغاليون ثم الهولانديون والأسبان والفرنسيون و أخيرًا الإنجليز، ونتيجة للتنافس التجاري بين القوتين البرتغالية والإسبانية، وظهور الهوس الاستعماري الفرنسي والبريطاني، وعندما اكتشف البرتغال طريق رأس الرجاء الصالح في بداية القرن السادس عشر الميلادي تغيرت معه حركة التجارة العالمية، ولم تعد مصر قلب هذه التجارة، وعانت من جراء ذلك معاناة شديدة، ومع تزايد التنافس الاستعماري بين الدول الكبرى نشط الفرنسيون للتغلب على منافسيهم البرتغاليين في الشرق الأقصى، ورأوا أنه لا سبيل لذلك إلا بإعادة التجارة إلى طريقها القديم والحصول على حاصلات الشرق بواسطة السويس، وصارت تلك الفكرة الشغل الشاغل للدبلوماسية الفرنسية ردحًا من الزمن، وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت سنة (1212هـ – 1798م) درس إنشاء قناة تربط البحرين، وكلف بعثة علمية لوضع دراسات هذا المشروع الذي كان العمود الفقري في برنامجه الاستعماري، غير أن “لوبير” كبير المهندسين ورئيس البعثة وقع في خطأ علمي هندسي أكد اختلاف مستوى منسوب البحر الأحمر عن البحر المتوسط واقترح شق قناة من خليج السويس إلى القاهرة، ثم تتصل بالبحر المتوسط عن طريق توصيلة إلى فرع النيل إلى دمياط وأخرى إلى فرع النيل إلى رشيد, و لكن خسارة فرنسا لأسطولها في معركة أبي قير سنة 1798م عجل بخروج الفرنسيين من مصر، ولم يكتب للمشروع التنفيذ وخروجهم من سياق هذه المنافسة الشرسة لشق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط والسيطرة على أقصر الطرق لتجارة الشرق.
فبعد الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا في بداية القرن التاسع عشر حول التنافس على تجارة الهند بدأ التفكير بالبحث عن طريق بحري أقصر من طريق رأس الرجاء الصالح، وقد فكر محمد علي في شق قناة تصل بين القاهرة والسويس، وتأسست جمعية في أوروبا غرضها الدعوة لشق قناة في برزخ السويس، والتقى بعض أعضاء هذه الجمعية بمحمد علي في الفيوم سنة (1261هـ- 1845م) وأعلن محمد علي أنه يريد أن ينفذ هذا المشروع بنفسه، وأن تكون القناة ملكًا لمصر مع حيادها التام, أما الفرنسيون فقد واصلوا جهودهم لتحقيق مشروعهم وأوفدوا إلى محمد علي سنة 1833م بعثة (جماعة سان سيمو نيان) وكان غرضها الإعداد لمشروع القناة وسنة 1846م كون قس يدعى انفنتان جمعية أطلق عليها (جمعية الدراسات الخاصة بقناة السويس) وكانت ذات ثلاثة أقسام واحدة فرنسية، والثانية إنجليزية, والثالثة ألمانية، وبفضل جهود الجمعية التي على رأسها المهندس النمساوي ” لويجي نيجر يللي” أوشك المشروع أن يتم واستطاعت هذه الجمعية أن تصحح الخطأ الذي وقع فيه ” لوبير ” من أن منسوب سطح البحر الأحمر يعلو سطح البحر المتوسط بعشرة أمتار، وثبت أنه بالإمكان تنفيذ المشروع.
بعد ذلك أوفدت ” جمعية الدراسات الخاصة بقناة السويس ” إلى محمد علي وفدًا من المهندسين برئاسة المهندس ” نيجر يللي ” لعمل أبحاث خاصة بقناة السويس المقترحة، وعرض الفرنسيون عليه مشروع شق القناة، ورفض محمد علي باشا المشروع الفرنسي وأصر على ضرورة إشراف الحكومة المصرية على تنفيذه وتمويلها له لكي تخلص القناة لمصر، وأصر على ضمان الدول الكبرى الحياد من المشروع.
مرة ثانية عاد الفرنسيون لاقتراح المشروع على محمد علي سنة 1833م ، و خاصة أن العالم الفرنسي لينان بك الذي كان في خدمة مصر أيام محمد علي قد قرر بعد مراجعات وقياسات لمستوى البحرين أن البحرين في مستوى واحد تقريبًا.
كان الإنجليز في مقدمة الدول التي سارعت في هذا الاتجاه, ورأوا أن طريق مصر أصلح من طرق أخرى كانت محلًا للدراسة والبحث، وقام “واجهرون ” بتجربة للمقارنة بين طريق رأس الرجاء الصالح وطريق السويس, و سافر حاملًا برقيات ترسل له من محطات مختلفة لبيان الفرق الزمني بين الطريقين.
أسباب رفض محمد علي بناء مشروع قناة السويس
البداية عندما جاءت جماعة سان سيمون إلى مصر – نسبة إلى هنري سان سيمون الفرنسي – و أثبتت أن البحر الأحمر والبحر المتوسط في مستوى واحد وأنه بالإمكان شق قناة بينهما، وعرضت جماعة سان سيمون على محمد علي باشا فكرة إنشاء القناة بالإضافة إلى مشروعات أخرى في مصر منها مشروع سد القناطر، فوافق محمد علي على مشروع القناطر، ولكنه لم يتحمس لمشروع القناة، و اشترط أن تتفق القوى الأوروبية مع الباب العالي في تركيا بشكل واضح وموثق على حقوق وواجبات كل طرف في حال شق هذه القناة.
تردد محمد علي في موضوع شق القناة لما يعلمه من الصراع الشرس الدائر بين القوى الكبرى على الممرات المائية في العالم، وقال قولته الشهيرة : ” لا أريد بوسفور في مصر” وعندما استشار محمد علي الأمير دي مترنيجKlemens Von Metternich كبير وزراء النمسا أشار عليه أن يبرم معاهدة دولية بين القوى الكبرى تحفظ حرية العبور في القناة لكل السفن وحيادها، ولكن إنجلترا وفرنسا وقفتا ضد إبرام مثل هذه المعاهدة، ولم تبرم فرنساهذه المعاهدة إلا في عام 1888م، وصدقت عليها بريطانيا في 1904م.
كانت وجهة نظر محمد علي هي أن هذا المشروع مختلف عن كل المشاريع التنموية الأخرى التي قام بها في مصر لأنه سيفتح الباب على مصراعيه لتدخل القوى الأجنبية في مصر للسيطرة على هذه الطريق الإستراتيجي الذي سيصبح أقصر الطرق البحرية لربط أوروبا بمستعمراتها في آسيا، لذلك فلم تكن المسألة معارضة للفكرة وإنما لمنح شركة أجنبية امتياز الحفر والانتفاع به اعتمد محمد علي على إنجلترا في الوقوف ضد المشروع وعدم إتمامه؛ لأنه سيسهل لبقية الدول الأوروبية مد نفوذها في جنوب شرق آسيا على حساب النفوذ الإنجليزي هناك، وبدأ الإنجليز يستخدمون الطريق المصرى القديم توفيرًا للوقت، وعادت التجارة مع الهند لسيرتها الأولى عبر الأراضى المصرية، وكانت هذه الطريق أقرب من طريق رأس الرجاء الصالح ولكنه لم يكن الحل الأمثل، وهو الذي يأتي بحفر قناة بحرية.
بعد وفاة محمد علي باشا تم عرض موضوع شق القناة على عباس الأول، ولكنه رفض شق القناة وبعد اغتيال عباس الأول تولى عرش مصر من بعده الأمير محمد سعيد.
جاء فردينان دي لسبس إلى مصر قنصلًا لفرنسا فى الإسكندرية سنة 1832م في عهد محمد علي، وكان محمد علي يدين بالفضل لأبوه ماتيو دي لسبس الذي ساعد في تدعيم مركزه وتثبيته واليًا على مصر من قِبل الباب العالي؛ لذلك قربه من ابنه سعيد حتى أنه لازم سعيد باشا في طفولته وشبابه.