” كرمة ابليس ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

النهار نصف نهار والليل يباغت الضوء بالعتمة المغبرة ، بتراب المقابر ذات الألف عام ، يخرج شيطان قريتنا ذى الرائحة النتنة ، والأنياب الدراكولية ، والذيل الأفعوان ، يفرد الظلام فى النهار ، يغطى به الأفق ، ويعتقل الضوء ،
تسرى بين جنبات الشوارع والبيوت والحارات والأزقة ، رائحة شهوته النتنة المختلطة برائحة عرقه العفنة ، يراود الزهور فى الحقول الخضراء اليانعة ، التى تتلمس مجيئ الربيع لتتفتح ، وتدور حول نفسها تتبع الشمس ،
تعشق زهور قريتنا الشمس وضوئها ، وتخشى شيطان المقابر ذى الرائحة النتنة والأنياب الدراكولية والذيل الأفعوان ،
، ترتعش الزهور اذا غابت الشجرة الأم ، وتخاف أن يغيب الأب الحقل أخضر اللون الفاتح ذراعاه يحمى كل الزهور المنتظرة الربيع القادم من هذا العام
يتربص شيطان القرية بين المقابر بالزهور ، يراقبها من بعيد ، ينتظر لحظة هبوب الرياح على الشجرة الأم والحقل الأب ، يهجم على الزهرة الوادعة وهى فى طريقها نحو النهر تريد الإرتواء ، تشتهى استكمال تفتحها وترنو نحو المستقبل ، تتمنى لنفسها الاكتمال ،وتختزن العبير تجود به للحياة
وفى لحظة الارتواء يأتيها شيطان قريتنا فى ملابس الناسك ، يمد يده ويغترف غرفة من النهر ، يتعكر الماء ويصبح النهر آسن ،
لم تدرك بعد الزهرة الصغيرة حيلة الناسك الشيطان ، تمد غصنها لترتوي ، يباغتها بمنجل حصاد الموت ، يتحول ثعبان أسود لامع ، يلتف حول الزهرة الصغيرة ، يعصر جسدها الرقيق ، يعاود العصر مرات ومرات ، والزهرة لا تملك فكاك ، اطبق بكل قواه على غصنها الأخضر ، امتص منه الحياة والأمل ، ومنع عنه الضياء ، وادخلها القبر وهى على قد الحياة!
الناس فى قريتنا نيام ، كانوا نيام وأصبحوا نيام ومازالوا نيام ، أهل قريتنا لا يستيقظون إلا فى المساء ، يسمرون على حكاوى الزهور التى اغتالها شيطان قريتنا الذى يأتيهم فى ملابس الناسك ، مخبأً الموت تحت جلده الناعم ، يذرفون بعضاً من الدموع ، وينتقلون من حكاية مصرع زهرة الى مصرع زهرة اخرى ،
كل صباح يجدون اجساد الزهور الميتة بجوار النهر ، يمصمصون الشفاة ، ويبتلعون آلامهم ويمضون فى انتظار حكاية اغتيال زهرة اخرى ، يتندرون بها فى المساء ، ويرفعون الشكاوى الى شيخ الغفر بقريتنا ، ينتظرون مواجهة للشيطان ، ان يذهب اليه فى المقابر يصرعه ، لكن شيخنا مشغول ومهموم بحصاد هذا العام من الحبْ الغالى الثمن ،
وذات صباح هبت الريح واهتزت الشجرة الأم وانشغل الحقل الأب ، وانفرد شيطان المقابر بالزهرة الوحيدة فى الحقل البعيد ، تكاثر الشيطان الى العديد من الشياطين ، التفوا حول الزهرة الوحيدة فى الحقل البعيد ، سددوا اليها رماحهم المسنونة والمسمومة ، غرسوها فى بدنها الرقيق المرة بعد المرة بعد الألف ،
تصرخ الزهرة وتئن أنينناً تهتز له السماء والشيطان لا يبالى ، ويكررها مرات ومرات ، ومازالت الزهرة تقاوم لكنها بالتأكيد قد ماتت منذ أن سدد لها شيطان قريتنا طعنته الأولى ، ماتت واقفة وستعيش ميتة لا أمل فى النجاة ، ولا أمل لقريتنا النائمة دوماً حتى المساء الا بقتل شيطان المقابر الذى مازال يسعى فى الحقول يغتال الزهور