قراءةٌ في الأنساق الثقافية في كتاب الأنشودة للأستاذة الدكتورة مفيدة إبراهيم علي عبد الخالق (النسق الديني)
دراسة أعدها الكاتب والناقد الأستاذ عبدالله جمعة

الحمد لله فاطر السماوات و الأرض ، المؤدَّى له السنة و الفرض ، جامع الناس يوم العرض ،أما بعدُ ؛
فإنني قد أُهْدِيتُ ذلك الكتاب من المؤلفة – كرم الله وجهها – و هي واحدة من علامات أزهرنا الشريف ذي الصرح المنيف و ذات العلم العفيف و النسب الشريف .
و لما قرأتُه انتشت عندي حاسة التحليل لما وجدتُ فيه من أسلوبٍ باذخٍ و عِلْمٍ شامخ و ظللتُ زمنًا أداوِرُ نفسي ؛ كيف أقدم ما يليق بهذا المصنف العلمي الجليل ذي الغرض النبيل و الجهد الظليل و الهدف الدليل و كعادتي أقف أمام أيِّ نص مكتوب أرمي إلى تسجيل قراءتي له أبحث عن مولج تحليلي يليق بمقام النص المكتوب

وبعد طول تفكير و مداورة ذهنية لم أجد أمامي خيرًا من آلية النقد الثقافي متخطيًا حدود النقد الأدبي المألوف لما يتسم به ذلك النوع من النقد من جدة و اتساع و شمول أكثر من آليات النقد الأدبي فهو الباحث عن المضمر الثقافي تحت النص المكتوب محاولاً – ليس إثبات المثبت – حاشا لله – و إنما لأوقف قارئ هذا المقال على عمق الجذر الديني عند المؤلِّفة حفظها الله بحفظه و رعاها لتكمل مسيرتها العلمية التي باتت واضحة جلية للعيان المنصف منهم و المجحف على وجه الاستواء . و قد قسمت هذا البحث عدة محاور رأيتُها لازمة لتأخذ بيد القارئ حتى يقف على :
أولا مضمون الكتاب و ما اشتمله من معارف محاولا وضع يدي في حلبة نظرية النقد الثقافي كواحد من الذين يتصدون لذلك النوع من النقد مسهما و لو باليسير القليل في هذا المضمار .
ثانيا نسق الدين المضمر تحت سطور المؤلفة و الذي يتضح كرافد أساس وراء كل ما ورد في هذا الكتاب .
فجاءت أقسام هذا البحث ثلاثة على ترتيبها الآتي :
- مفهوم النقد الثقافي
- وقفة على نظرية الأنساق الثقافية .
- تحليل نسقي لمتن الكتاب متمثلا في مقدمته الشارحة .
المحور الأول (مفهوم النقد الثقافي)
لقد لعب النقد الأدبي – فيما سبق – دورًا مهمًّا في الوقوف على جماليات النصوص حيث نجح في تدريب أذواقنا على تذوق الجمالي و تقبل الجميل النصي و مع ذلك فقد سقط هذا النقد سقوطًا مدويًا حيث أوقعنا جميعًا في العمى الثقافي التام عن تلك العيوب النسقية المختبئة تحت عباءة الجمال النصي .
لقد “ظلت العيوب النسقية تتنامى متوسلة بالجمالي – الشعري و البلاغي – حتى صارت نموذجًا سلوكيًّا يتحكم فينا ذهنيًّا و عمليًّا و حتى صارت نماذجنا الراقية – بلاغيًّا – هي مصادر الخلل النسقي . و بما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف هذا الخلل الثقافي جاءت الدعوة لإعلان موت النقد الأدبي و إحلال النقد الثقافي مكانه [1]
يكمل الدكتور الغذامي فيقول : “و ليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي و إنما الهدف هو تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص و تبريره و تسويقه بغض النظر عن عيوبه النسقية إلى أداة في نقد الخطاب و كشف أنساقه . [2]
إذن كان من الضروري اللازم أن يفتح المجال أمام حركة النقد إلى آفاق أكثر رحابة و اتساعًا في التعامل مع النصوص و تكون أشد عمقًا من مجرد النظر الجمالي و تأسيس نوع من الوعي النظري في نقد الخطاب الثقافي .
لقد كسر النقد الثقافي مركزية النص و لم يعد ينظر إليه بوصفه نصًّا و لا في الأثر الاجتماعي الذي قد يظن أنه من إنتاجه حيث أصبح النص مادة خام يستخدم لاستكشاف أنماط معينة من الأنظمة السردية و الإشكالية الأيديولوجية و أنساق التمثيل و كل ما يمكن تجريده من النص .
فالنص إذن ليس هو الغاية القصوى للدراسات الثقافية و إنما غايتها المبدئية هي الأنظمة الذاتية في فعلها الاجتماعي في أي تموضع كان بما في ذلك تموضعها النصي و ليست المسألة بقراءة النص بخلفيته التاريخية و لا في استخدامه للإفصاح عن الحقب التاريخية ذات الأنماط المصطلح عليها فالنص و التاريخ منسوجان و مدمجان معا كجزء من عملية واحدة .
إن الدراسات الثقافية تركز على أن أهمية الثقافة تأتي من حقيقة أن الثقافة تعين على تشكيل و تنميط التاريخ و أفضل ما تفعله الدراسات الثقافية هو وقوفها على عمليات إنتاج الثقافة و توزيعها و استهلاكها .
المحور الثاني (وقفة على نظرية الأنساق الثقافية)
و إننا إذا أردنا أن نقف على مفهوم النسق الثقافي فإن علينا أن نحاول فهم ما يمكن أن نسميه بـ “ازدواجية الدلالة” حيث إن كل خطاب يحمل بعدين هامين هما : ذلك الحاضر الماثل في الفعل اللغوي المكشوف و نعرفه عبر تجلياته الجمالية ، و ذلك البعد الذي يمس المضمر الدلالي للخطاب .
و النسق الثقافي في أبسط صوره هو رافد معرفي ظل يتغلل في نفس المؤلف أو الأديب حتى امتلك عليه عقله الباطن و أصبح مصدرًا رئيسًا يصدر عنه أكثر إنتاج هذا المؤلف أو الأديب و لكنه يظل مضمرًا خلف خطابه يمسه الناقد و يستكشفه من خلال دراسته الثقافية للنص .
إن نظرية الأنساق تقوم أساسًا على اعتبار أن هناك نسقين يحركان الفعل النصي ؛ أحدهما ظاهر و ذلك لا تبحث فيه نظرية الأنساق ، و الآخر مضمر و هو مكمن البحث في التحليل النسقي و يكون في الأعم مضادًا للنسق المعلن فهو لا يسير معه في نفس الاتجاه و مع ذلك فهو الدافع أو الوازع المحرك للنسق الظاهر .
إذن فنحن في حاجة إلى دلالة جديدة نعمل على الكشف عنها من خلال النص يمكن أن نسميها (الدلالة النسقية) و تتمثل في دلالة المفردة أو الجملة أو العمل النصي على الرافد أو النسق الثقافي الذي ساهم في تكوين إيديولوجية الكاتب الناص ، و هي دلالة قادرة على التحكم في سلوك الأديب النصي و توجيهه دون وعي منه فهي التي توجهه و ليس العكس فكم من أديب أظهر مدى قناعته بالحداثة و لكن الدلالة النسقية الكامنة تحت مفرداته و جمله أكدت رجعيته و كم من أديب يؤدي ظاهر لفظه إلى ديموقراطيته و دلالته النسقية كشفت عن ديكتاتوريته و هكذا . من هنا نستطيع أن نصب اهتمامنا على الجمل المُنْتَجَة من الأديب أو الكاتب و نستطيع أن نعبر عن كل جملة نجحنا في الكشف عن مضمرها الثقافي أن نسميها بـ “الجملة الثقافية” .
المحور الثالث (تحليل نسقي للنص المكتوب)
و قبل الخوض في التحليل النسقي فإنه من اللازم أن أقدم مضمون الكتاب حتى يعي المتلقي – المُسْتَهِلك الثقافي – فكرته و ما احتواه و مرماه .
الكتاب يتحدث عن فن الأنشودة (النشيد) في الشعر المصري الحديث ، نشأته و تطوره و هو عبارة عن بابين ؛ كل باب فصلان يتضمن الباب الأول فكرة الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر و بابه الثاني يتضمن جذورها و مراحل تطورها ، وأما بابه الثاني فيقدم في فصله الأول أشهر شعراء الأنشودة في الأدب العربي الحديث في مصر (دراسة تحليلية) و فصله الثاني فيتضمن رؤية نقدية عن الأنشودة و سائر فنون الشعر الأخرى .
سَعت الدكتورة مفيدة إلى احتواء هذا الفن و التأصيل له و ذكر أضربه و ألوانه و أهم شعرائه و التأصيل لكل أنشودة و التعريف بها و بصاحبها .
و هو كتاب قد حاز قصب السبق في هذا المضمار فلم تُسْبَق إليه المؤلفة كما أكدت في مطلعه من خلال بحثٍ و استقصاء قامت بهما .
و أيا ما كان الأمر فقد توجهتُ هنا إلى دراسة النسق الديني في الكتاب لذلك فقد اختصرت و لم أسهب في عرض محتوى الكتاب تفصيليًّا ؛ إذ تركت القارئ (المستهلك الثقافي) يمعن فيه فيحصل على المرجو من القراءة ليجني متعة ذلك بنفسه ، ثم لأنني قد خَصَصْتُ قراءتي هذه لدراسة النسق الديني المضمر في الكتاب برغم عدم التوجه الديني لموضوعه .
النسق الديني في كتاب الأنشودة (تحليل نسقي)
إذا كانت المؤلفة قد اتجهت إلى فن حديث هو فن الأنشودة في الشعر العربي المصري و هو فن ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالنزعة الوطنية و روح الانتماء لمصرَ و كرس جل جهده لإبراز دور تلك الأنشودة في حركة النضال الوطني و إن كان هذا الفن قد ارتبط في الموروث الثقافي العربي الإسلامي بل و ربما سبق ذلك في الجاهلية ؛ ففي بدايات العصر الإسلامي استقبل المسلمون في يثربَ الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بأنشودة “طلع البدر علينا” و من قبل الإسلام كان العرب في الجاهلية يرجزون ببعض تلك الأناشيد أثناء تأدية عباداتهم الصنمية حيث يُروى أن إحدى القبائل اليمنية – قبيلة عَك – كان تنشد و هي تطوف حول الكعبة “نحن غرابا عك” حيث كان طوافهم يقترن بتقديم عبدين أسودين كذبيحتين تقربًّا للإله الذي يعبدونه فكانت هذه القبيلة تقدم العبدين – قبل نحرهما – في أول طابور الطواف و يسير حجاجهم خلفهما مرددين :
نحن غرابا عك
عَكٌ إليك عانية
عبادة اليمانية
إلا أن المؤلفة قصرت بحثها على الأنشودة المصرية المعاصرة و أحصتها إحصاءً دقيقًا و استوفتها حتى لم تترك شاردة أو واردة من تلك الأناشيد المصرية إلا و ألمت بها .
إذن موضوع الكتاب لا علاقة له بالدين أو التدين ، ليس مضادًّا و إنما هو أمر دنيوي يرتبط بالوطن و بأحد الفنون الوطنية الدنيوية إن جاز هذا التعبير .
و لكن المؤلفة ناشئة منذ نعومة أظفارها في الأزهر الشريف متعلمة ثم أستاذة في جامعة الأزهر ثم عميدة لبعض كلياته فهي ذات مشارب دينية قد غذت روافدها المعرفية حتى أصبحت ركنًا ركينًا من مكونها الشخصي و الثقافي . لذلك فحين نطالع الكتاب نشعر من تحت كلماته و جمله و مركباته اللغوية أن هناك نسقًا مضمرًا تحت كل تلك المعاني يمثل تلك الروح و يعبر عنها حتى لا تكاد تترك سطرًا مما تقرأ حتى تكون قد حَصَّلْتَ مصطلحات ترتبط بالثقافة الدينية المتأصلة عند المؤلفة ، بل تتعثر أينما توغلت في القراءة في مصطلحات فقهية قد وُظِّفَت دون عمدٍ من المؤلفة لخدمة الموضوع المدني .
إن ذلك النسق الديني يتجلى واضحًا كجزء من الضفيرة الشخصية و الوجدانية للمؤلفة فتجد أولَ غيثه في الإهداء حين قالت : “إلى علماء الأزهر الذين حملوا أمانة الإسلام و تراث الأمة .. إلى كل من منحني من علمه الغزير و وقته الثمين ما أعانني على مواصلة البحث .. و إلى زوجي الأستاذ / على سعد حسين الذي أعانني على إظهار هذا الجهد المبذول في هذه الدراسة”
تلك كلمات الإهداء و بالنظر إليها نجد أن أول كلماتها المهداة كانت إلى علماء الأزهر الشريف و لننظر إلى تلك “الجملة النسقية” التي استفتحت بها إهداءها “إلى علماء الأزهر الذين حملوا أمانة الإسلام و تراث الأمة” و بالتدقيق فيها سنعثر على ما يرضينا و يشبعنا من دخول الأزهر – كمؤسسة دينية في المقام الأول – بعلمه و علمائه و أخلاقه إلى مكونات شخصية المؤلفة حتى إنك لتشعر أن الأزهر هو الروح المهيمنة على المؤلفة .. فهي لم تعطف عليهم أحدًا و كأنها قد خصتهم وحدهم بحمل أمانة الإسلام و تراث الأمة ، ثم إنها في تلك الجملة النسقية ذات الدلالة النسقية الخطيرة يظهر مدى انتمائها إلى الأزهر من خلال استعمالها لكلمات دون غيرها و مركبات صرفية دون غيرها أيضا ..
فاستعمالها لحرف الجر (إلى) في قولها ” إلى علماء الأزهر” بالرجوع إلى معاني حرف الجر (إلى) سنجد مضمرًا نسقيًّا خطيرًا يبرز من غير شك شدة ارتباطها بعلماء الأزهر و جعلهم وحدهم مصدر العلم لا شريك لهم من الخلق .
لذلك فسأقف على معاني حرف الجر (إلى) كما وضحها النحويون :
جاء في المقتضب : ” وأما إلى فإنما هي للمنتهى ألا ترى أنك تقول ذهبت إلى زيد و سرت إلى عبد الله و وكلتك إلى الله” [3]
وهي تأتي بدلالة المعية حيث جعل النحاة فيها قوله تعالى “مَنْ أَنْصَاْرِي إِلَى اللهِ” [الصف 14] و التحقيق أنها بمعنى الانتهاء أي من يضيف نصرته إياي إلى نصرة الله . [4]
هنا ندرك أن الأصل في (إلى) أن تكون لانتهاء الغاية ؛ أي غايتي في حدث الفعل ينتهي عند (المجرور بها) الواقع بعدها مباشرة .
و بالنظر في استعمال المؤلفة للحرف (إلى) في مستهل إهدائها سنرى أنها قد جعلت علماء الأزهر غاية المنتهى في العلم و آخر أفق العلم في هذا الزمان و ذلك – لعمري – نسق ديني مضمر حتى في اختيارها للكلمات .
ثم للنظر إلى جمع (علماء) نجد أنه قد ورد على صيغة (فُعَلَاء) برغم وجود صيغ أُخَرُ لجمع (عالِم) و لكن اختيارها لتلك الصيغة المجموعة يعد نسقًا مضمرًا يؤكد رسوخ الرافد الديني و التحامه بمكونها النفسي و الثقافي .
فقد أورد النحاة و الصرفيون أن وزن (فُعَلَاء) يدل على السجايا و الطباع .. قال (ابن يعيش) : قالوا شاعر و شعراء و جاهل و جهلاء شبهوه بفعيل الذي هو بمنزلة فاعل نحو كريم و كرماء و حكيم و حكماء لأنه إنما يقال ذلك على من قد استكمل الكرم و الحكمة و كذلك شاعر لا يقال إلا لمن صارت صناعته و كذلك جاهل فلما استويا في العدة و تقاربا في المعنى حمل عليه” [5]
و جاء في “شرح الرضي على الشافية” : ” و أكثر ما يجيء فُعَلَاء في هذا الباب يعني فاعلا كجهلاء و جبناء و شجعاء” [6]
و قال ابن الناظم : “إن نحو فاعل و صالح و شاعر مشابه لنحو بخيل و كريم في الدلالة على معنى هو كالغريزة فهو كالنائب عن فعيل فلهذا جرى مجراه” [7]
و جاء في المقتضب : فأما قولهم شاعر و شعراء فإنما جاء على المعنى لأنه بمنزلة فعيل الذي هو في معنى الفاعل نحو كريم و كرماء و ظريف و ظرفاء و إنما يقال ذلك لمن قد استكمل الظرف و عرف به فكذلك جميع هذا الباب فلما كان (شاعر) لا يقع إلا لمن هذه صناعته و كان من ذوات الأربعة بالزيادة و أصله الثلاثة كان بمنزلة فعيل الذي ذكرناه” [8]
و جاء في الخصائص في عالم و علماء : “قال سيبويه : يقولها من لا يقول عليم لكنه لما كان العلم إنما يكون الوصف به بعد المزاولة له و طول الملابسة صار كأنه غريزة و لم يكن على أول دخول فيه و لو كان كذلك لكان متعلمًا لا عالمًا فلما خرج بالغريزة إلى باب فعُل صار “عالم” في المعنى كعليم فَكُسِّرَ تكسيرَه ثم حمل عليه ضده فقالوا جهلاء كعلماء و صار علماء كحكماء لأن العلم مَحْلَمَة لصاحبه و على ذلك جاء عنهم : فاحش و فحشاء و لما كان الفحش ضربًا من ضروب الجهل و نقيضًا للعلم” [9]
هنا نقف عند استعمال المؤلفة لصيغة فُعَلَاء في جمع عالِم و نقول إن الرافد (النسق) المضمر تحت هذا الجمع إنما هو يدل دلالة قطعية على ما رسخ في نفسها من توقير لعلماء الأزهر و نظرها لهم على أنهم هم حملة العلم بالسجية و الطبع و أنهم على كونهم حملة العلم الأرضي إلا أنهم قبل ذلك فهم حملة العلم اللدني المُلْهَم الذي جعلهم هم وحدهم أو قبل غيرهم حملة ذلك المعنى و مظهر ذلك أنها في الإهداء بدأت أولا بهم ثم ثَنَّتْ بعد ذلك بمن منحها العلم الغزير أيًّا كانت مرجعيته فهو في المقام الثاني بعد علماء الأزهر .
إن هذا لعمري لرافد ثقافي تدين به المؤلفة و يأتي عفويًّا في كلامها مضمرًا تحت الصيغة النسقية أو الجملة النسقية أو المفردة النسقية فلنسمها ما شئنا فلا ضير من ذلك طالما أدت المدلول المراد المتمثل في تلك الضفيرة المكونة لشخصية المؤلفة و وجدانها .
إن أهمية النسق الثقافي في الخطاب إنما كونه يأتي عفويًّا غير مقصود من الكاتب فهو يخرج من اللاوعي ليؤكد أنه لم يكن مقصودًا و لم يدخل في باب الرياء أو التملق .
و ذلك الرافد (النسق) الديني إنما يتجلى في الكثير من جُمَل المؤلفة أو مركباتها النحوية و الصرفية و الدلالية فيكفينا أن ننظر إلى مقدمة الكتاب التي وفت فيها محتويات كتابها و مرامي تأليفه و دوافعها إلى ذلك و التي جاءت في أربعة و ستين سطرًا أوردت فيها كلمات ذات أبعاد دينية ما بين (الدين) و (الهداية) و (الإحياء) و (البعث) و (الدعوة) ثماني مرات في مقدمة لكتاب لا علاقة له بالدين بل هو مؤلَّف يختص بفن من الفنون الشعرية التي نشأت في مصر في العصر الحديث الذي يكاد يكون آنيًّا و يدخل في باب الطرب و الغناء الذي يستبعده كثير من علماء الدين و يعتبرونه فنا ملحنا – ممزوج بالموسيقى – لا يمت لأصول الدين بصلة من حيث كونه ملحنًا على إيقاعات الموسيقى .
نعم فالمؤلفة وضعت مصنفًا يؤرخ لفن من الفنون الدنيوية و لكنها و بمنتهى العفوية لم تستطع أن تتخلص من النسق الديني المتغلغل في مكونها الثقافي و الوجداني .
إن الدخول إلى متن الكتاب و الغوص في آلية الخطاب و تقنيته التي اعتمدت عليها المؤلفة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ما ذهبتُ إليه من رسوخ ذلك الرافد في شخصيتها حتى و إن حاولت الخوض في تقديم موضوعات هي في جوهرها و مظهرها لا علاقة لها بالدين أو التدين من باب التأصيل لها و إعلام المستهلك الثقافي بها .
و لولا ضيق المساحة الورقية لخضت في جميع متن الكتاب و لكني اكتفيت بتلك الأسطر لأن ما سيقدم لن يضيف إلى تلك الأطروحة فقط سيؤكد ما زعمته بوجود ذلك النسق الديني في كتابات الدكتورة مفيدة إبراهيم .
———-
[1] الدكتور عبد الله الغذامي – النقد الثقافي – ص 8
[2] المرجع نفسه ص 8
[3] المقتصب 4 / 139
[4] شرح الدماميني على المغنى 1 / 162
[5] ابن يعيش 1 / 54 – 55
[6] شرح الرضي على الشافية 2 / 157 – 158
[7] شرح الألفية 323 و انظر البهجة المرضية 199
[8] المقتضب 2 / 220 و بدائع الفوائد 1/ 110
[9] الخصائص – 1 / 382