” قراءات في استعارات السرد الروائي الحديث ” .. دراسة أعدتها الناقدة أ.د . مفيدة إبراهيم علي عبدالخالق أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر
(قصة نهر الحكمة .. الشرقاوي أنموذجا)
يُعد التراث البلاغي العربي صرحاً علمياً كبيراً في بنيان التراث الإنساني، وذلك استناداً إلى غنى وتنوع النتاج البلاغي العربي القديم وارتياده لآفاق متنوعة، وقد تبوأت الاستعارة مكاناً عالياً من التراث النقدي والبلاغي، وحظيت بنصيبٍ وافرٍ من الاهتمام في كثير من مباحث وقضايا هذا التراث. ويتجلى لنا هذا في عدة محاور رئيسة منها :
— التعرف على الصورة البلاغية أو الأدبية بدلالاتها المتعددة.
— تبلور الصورة في ثقافتنا الإنسانية عبر مراحل عدة، و ارتباطها بالتشبيه، والاستعارة.
— الصورة أفضل من الكلمة على مستوى التبليغ والتواصل والإفهام.
— ارتباط الصورة الروائية أو الصورة السردية بالاستعارة بتخيلاتها الجمالية المختلفة .
— الوقوف على خصائص السرد الروائي من المنظور البلاغي.
الكلمات الافتتاحية :
– الاستعارة –التشبيه -الصور –السرد – الرواية الحديثة .
أولا — التعرف على الصورة البلاغية أو الأدبية بدلالاتها المتعددة
تحتل الصورة البلاغية مكانة هامة في الدراسات الأدبية والنقدية واللغوية؛ لأن الصورة هي جوهر الأدب، وبؤرته الفنية والجمالية. كما أن الأدب فن تصويري يسخر الصورة للتبليغ والتوصيل من جهة، والتأثير على المتلقي سلبا أو إيجابا من جهة أخرى. لكن الأدب ليس الشعر فقط الفن الوحيد الذي يستثمر الصورة في التعبير والتشكيل والبناء، بل تشاركه في ذلك مجموعة من الأجناس الأدبية والفنية، كالرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، ، والمسرح، والسينما، والتشكيل وغيرها .
ويعني هذا أن الصورة لم تعد حكرا على الشعر فحسب، بل لها نطاق رحب وواسع. ولم تعد تحتكم فقط إلى مقاييس البلاغة التقليدية، سواء أكانت عربية أم غربية، بل تطورت هذه الصورة البلاغية، وتوسعت مفاهيمها، وتنوعت آلياتها الفنية والجمالية، وتعددت معاييرها الإنتاجية والجمالية والوصفية. ولم يتحقق ذلك إلا مع تطور العلوم والمعارف، بما فيها الفلسفة، وعلم الجمال، والبلاغة، واللسانيات، والسيميوطيقا، والشعرية، والمنطق، والتداوليات, وغيرهم ، وأن الصورة أصبحت قاسما مشتركا بين هذه الحقول المعرفية والعلمية؛ إذ كل تخصص يدرس الصورة في ضوء رؤية معينة، يفرضها منطق التخصص المعرفي، و تستوجبه آلياته المنهجية والتحليلية في الفهم والتوصيف والتفسير.
ومن المعلوم أن البلاغة العربية تنقسم إلى علوم ثلاثة: علم البيان الذي يدرس التشبيه، والاستعارة، والمجاز المرسل، والمجاز العقلي، والكناية بأنواعها. بينما يدرس علم المعاني الخبر والإنشاء، وأسلوب الحصر والقصر، والمساواة والإطناب والإيجاز. كما يدرس علم البديع مجموعة من المحسنات اللفظية والمعنوية، مثل: السجع، والجناس، والتشاكل، والتكرار، والتضمين، والتورية، والطباق، والمقابلة، والالتفات… بينما هناك صور لم تدرسها البلاغة العربية رغم وجودها بها ، كالرمز، والأسطورة، والأيقون، والمخطط… . ويلاحظ أيضا أن البلاغة العربية لم تدرس المحسنات البديعية كصور، بل أدرجتها ضمن محسنات بديعية ليس إلا، يراد بها التنميق والزخرفة اللفظية والمعنوية. في حين، جعلتها البلاغة الغربية صورا مثل باقي صور علم البيان، فضمتها إلى الاستعارة والتشبيه، وسمتها بـ (Figures) أو بـ (Tropes) .
ويمكن تجميع الصور البلاغية العربية في الأنماط التالية: صورة المشابهة (التشبيه والاستعارة)، وصورة المجاورة (الكناية، والمجاز المرسل، والمجاز العقلي)، وصورة الرؤيا (الرمز والأسطورة)، وصورة الائتلاف (التوازي، الجناس، والتشاكل، والتكرار، والمماثلة، والتكافؤ، والتناسب، والتعادل، وتشابه الأطراف…)، وصورة الاختلاف (الطباق والمقابلة…)، وصورة السيمياء (الأيقون، والإشارة، والعلامة، والمخطط، والعلامات البصرية…)، وصورة الإحالة (التضمين، والتناص، والاقتباس، …)،
هذا، وقد صنفت البلاغة الغربية الصورة الفنية والجمالية تصنيفات عدة، وبطرائق مختلفة. بيد أنه يمكن تعداد مجموعة من الصور البلاغية الغربية التي لا تختلف، بشكل من الأشكال، عن الصور العربية، وهي: المماثلة، والجناس، والطباق، والسخرية، والمجاز المرسل، والتشبيه، والاستعارة، والتشخيص، والتكرار، والمقارنة، والحذف أو الإضمار، والتدرج نقصانا وزيادة، والمبالغة، والتعويض، والاستبدال، والتهذيب، والكناية، والمقابلة، والتعريض، والتلويح، والإشارة، والإيحاء، والتلميح…
ثانيا – دلالات الصورة البلاغية :
لقد عرفت الصورة البلاغية أو الأدبية أو الفنية أو الشعرية دلالات متعددة عبر التطور التاريخي، فقد كان الفيلسوف اليوناني أرسطو يعتبر الصورة استعارة قائمة على التماثل والتشابه بين الطرفين المشبه والمشبه به، بل كان يسمي التشبيه والاستعارة صورة ” إن التشبيه هو استعارة ما، إلا أنه يختلف عنها قليلا. وفي الحقيقة عندما يقول هوميروس عن أشيل: إنه ينطلق كالأسد، فهذا تشبيه، ولكنه عندما يقول: ينطلق الأسد، فهذه استعارة، ولما كان كلاهما يشتركان في معنى الشجاعة، فقد أراد الشاعر عن طريق الاستعارة أن يسمي أشيل أسدا. ”
وبهذا، تكون الصورة البلاغية أو الخطابية قائمة على التشبيه والاستعارة، وتشترك الصورتان معا في عنصر المشابهة والتماثل. وبعد أن كانت الصورة مرتبطة بمولد الحس والعقل والخيال، انتقلت مع السرياليين لترتبط باللاوعي والمتخيل اللاشعوري. إلا أنها ارتبطت، في القرن العشرين، بتيارات اللسانيات والتداوليات والسيميائيات والشعرية الإنشائية. كما اقترنت بالمكون البصري والأيقوني مع السيميائيات المرئية والبلاغة الرقمية.
وتأسيسا على ماسبق، حصرت الدراسات البلاغية والأدبية الصورة الفنية في علاقة المشابهة القائمة على التشبيه والاستعارة، دون الارتكاز على علاقة المجاورة (المجاز المرسل والكناية) التي تهيمن على النثر الأدبي والسردي بشكل لافت للانتباه. ومن ثم، فقد ثار جان مولينو (Molino) وجوئيل تامين (Tamine) في كتابهما (مدخل إلى التحليل اللساني للشعر) على المجاز المرسل؛ لأنه ليس صورة بلاغية فعلية لبساطتها من ناحية، وسهولة استخلاصها وتحديدها من قبل المتلقي من ناحية أخرى. وبالتالي، فالصورة الحقيقية هي صورة المشابهة. وفي هذا الصدد، يقول الدارسان: ” وفي الحالتين، فإن الانزياح الذي يقوم عليه المجاز المرسل يتم تجاوزه واختزاله بسهولة، إذ إن العلاقة التي تجمع بين الطرفين… طبيعية ومباشرة. إن هذه المجازات تقوم على علاقات جاهزة سلفا، وهي لا تتطلب مجهودا، لا من الشاعر لكي يبدعها، ولا من المتلقي لأجل تأويلها…
ثالثا — تبلور الصورة في ثقافتنا الإنسانية عبر مراحل عدة، و ارتباطها بالتشبيه، والاستعارة.
وعليه، تعرف الصورة غالبا بأنها انزياح عن المعيار، أو خروج متعمد عن القواعد المعتادة، أو تحويل الألفة إلى غرابة، كما يرى ذلك جون كوهن (John Cohen) في كتابه (بنية اللغة الشعرية) . ويعني هذا أن الصورة هي تحويل لما هو مألوف ومستعمل من الكلام إلى لغة مجازية واستعارية وبلاغية خارقة لما هو عادي. ومن ثم، فالصورة هي عملية تحويل وتغيير وتعويض واستبدال. وتتحقق هذه العملية على المحورين المتقاطعين: المحور الاستبدالي الدلالي والمحور التأليفي التركيبي اللذين يساهمان في تحقيق الوظيفة الشعرية حسب رومان جاكبسون (R. Jakobson).
والمجاز المرسل، والكناية، والمحاكاة، والتخييل، والتكرار، والتوازي، والرمز، والأسطورة، والرؤيا، والعلامة… كما تشكلت مفاهيمها الاصطلاحية والنظرية وصفا وتحليلا وفهما وتفسيرا، عبر مجموعة من النظريات التي يمكن حصرها في نظرية الحقيقة والمجاز عند نقادنا العرب القدامى، ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، ونظرية الخرق والانزياح عند جون كوهن، ونظرية التفاعل (Interaction) عند ريشارد (Richards) وإمبسون (Empson)، ونظرية الحجاج، ونظرية المقومات السيميائية، ونظرية الاستبدال، ونظرية التأليف، ونظرية الإحالة عند بول ريكور في كتابه (الاستعارة الحية)، حيث تصبح الاستعارات أو الصورة لديه وسيطا لنقل الواقع وتحويله إلى عوالم تخييلية ممكنة أو افتراضية.
إذن الصورة أفضل من الكلمة على مستوى التبليغ والتواصل والإفهام , وعلى أي، تعتبر الصورة، في مفهومها العام، تمثيلا للواقع المرئي ذهنيا أو بصريا، أو إدراكا مباشرا للعالم الخارجي الموضوعي تجسيدا وحسا ورؤية . ويتسم هذا التمثيل بالتكثيف والاختزال والاختصار والتصغير والتخييل والتحويل من جهة، ويتميز بالتضخيم والتهويل والتكبير والمبالغة من جهة أخرى. ومن ثم، تكون علاقة الصورة بالواقع التمثيلي علاقة محاكاة مباشرة، أو علاقة انعكاس جدلي، أو علاقة تماثل، أو علاقة مفارقة صارخة. وتكون الصورة صورة لغوية تارة، و صورة مرئية بصرية تارة أخرى. وبتعبير آخر، تكون الصورة لفظية ولغوية وحوارية، كما تكون صورة بصرية غير لفظية. وللصورة أهمية كبيرة في نقل العالم الموضوعي بشكل كلي اختصارا وإيجازا، وتكثيفه في عدد قليل من الوحدات البصرية. وقد صدق الحكيم الصيني كونفشيوس الذي قال: “الصورة خير من ألف كلمة” .
وعلى وجه العموم، تحيل كلمة الصورة على التصوير والتمثيل والمحاكاة. ومن ثم، فالصورة هي التي تنقل لنا العالم إما بطريقة حرفية مباشرة وإما بطريقة فنية جمالية. أي: إن الصورة تلتقط ما له صلة بالواقع أو الممكن أو المستحيل. والآتي، أن الصورة قد تكون لغوية بيانية كما هو حال الصور البلاغية من تشبيه، واستعارة، ومجاز، وكناية، … وقد تكون صورة حسية بصرية أيقونية، أو عبارة عن أنساق سيميائية غير لفظية، تتجسد بشكل جلي في الجسد والسينما والمسرح والفوتوغرافيا والحاسوب وغير ذلك من الأنساق الحسية المتعلقة بالموضة والطعام والعمران والأزياء والإشهار…
ومن المعلوم، أن الصورة أفضل من الكلمة على مستوى التبليغ والتواصل والإفهام. اضف إلى ذلك، أن الصورة قد تنقل العالم بإيجاز وإيحاء واختصار، أو قد تنقله مفصلا واضحا وجليا. وإذا كانت العلامة اللغوية في التصور اللساني ثنائية الطابع، تجمع بين الدال الصوتي والمدلول المفهومي المجرد، فإن الصورة المرئية تقوم على عناصر ثلاثة: الدال والمدلول والمرجع. ويقوم المرجع- هنا- بدور هام في تسنين الصورة وتشفيرها بصريا ومرئيا وحسيا.
إن الصورة بهذا المعنى هي نتاج ثري لفعالية الخيال الذي لا يعني نقل العالم أو نسخه، وإنما إعادة التشكيل، واكتشاف العلاقات الكافية بين الظواهر، والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة في وحدة. وإذا فهمنا هذه الحقيقة جيدا أدركنا أن المحتوى الحسي للصورة ليس من قبيل النسخ للمدركات السابقة، وإنما هو إعادة تشكيل لها، وطريقة فريدة في تركيبها، إلى الدرجة التي تجعل الصورة قادرة على أن تجمع الإحساسات المتباينة، وتمزجها وتؤلف بينها في علاقات لا توجد خارج حدود الصورة ,وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صورا بصرية فحسب، بل تثير صورا لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته.
وعليه، فهناك من الباحثين من يتعامل مع الصورة على أنها مرآة عاكسة للذات أو الواقع أو لنفسها. وهناك من يتعامل معها على أنها فن تخييلي جمالي وإبداع إنساني من جهة، ومرتبط بالمتخيل وعملية التخييل اللغوي والبلاغي من جهة أخرى. وهناك من يتعامل مع الصورة من الناحية السيميائية والمرئية والبصرية. وهناك من يتعامل معها في ضوء الصورة الروائية أو الصورة البلاغية الموسعة.
آليات الصورة البلاغية:
وتستعمل الصورة، بصفة عامة، مجموعة من الآليات البلاغية والبصرية بغية التأثير والإمتاع والإقناع، وتمويه المتلقي، مثل: التكرار، والتشبيه، والكناية،
يمكن الحديث عن بعض من الصور في مختلف الحقول المعرفية والعلمية، منها ما يلي:
الصورة الشعرية: هي تلك الصورة البلاغية القديمة التي تعتمد على صور البيان (التشبيه، والاستعارة، و المجاز العقلي، والمجاز المرسل، والكناية)، والمحسنات البديعية (الطباق، والمقابلة، والتكرار، والالتفات، والتورية، والجناس، والسجع، والتورية، والتضمين…).
الصورة السردية الموسعة: هي تلك الصورة التي ترتبط بالسرد، سواء أكانت رواية أم قصة أم قصة قصيرة، وهي تصوير لغوي تخييلي، وتشكيل فني جمالي إنساني، يراعي مجموعة من السياقات، مثل: السياق الذهني، والسياق النصي، والسياق اللغوي، والسياق البلاغي، والسياق الأجناسي والنوعي.
الصورة المسرحية: يقصد بالصورة المسرحية تلك الصورة المشهدية المرئية التي يتخيلها المشاهد والراصد ذهنا وحسا وشعورا وحركة. وغالبا ما تكون هذه الصورة ركحية وميزانسينية ، تتكون من مجموعة من الصور البصرية التخييلية المجسمة وغير المجسمة فوق خشبة الركح.
وظائف الصورة:
تتضمن الصورة مجموعة من الوظائف حسب موقعها السياقي. منها: الوظيفة التخييلية، والوظيفة الفنية والجمالية، والوظيفة المرجعية، والوظيفة التمثيلية، والوظيفة الانعكاسية، والوظيفة البلاغية، والوظيفة الحجاجية، والوظيفة السردية، والوظيفة التصويرية، والوظيفة الإبداعية، إلخ…
معيار الصورة الروائية أو السردية:
نعني بالمقاربة البلاغية السردية تلك المنهجية التي تدرس النصوص السردية، سواء أكانت قصصية أم روائية، في ضوء الصورة البلاغية الموسعة أو في ضوء معيار الصورة الروائية، كما طرحها الكاتب المصري محمد الشرقاوي في قصه القصيرة بعنوان (نهر الحكمة )
والباحث المغربي الدكتور محمد أنقار في كتابه (بناء الصورة في الرواية الاستعمارية صورة المغرب في الرواية الإسبانية) .
بل لا بد أن يهتم بالسياق الذهني الذي يعبر عن عملية التفاعل التي تتم بين المتلقي والصورة بملء فراغاتها وفجواتها عبر فعل التأويل والتقييم. . بمعنى أن الصورة الروائية” تمثل ذهني وتجربة يتلذذ بها المتلقي المساهم في فعل القراءة بدوره الحاسم، وجدله الثري مع خطاطات النص ومظاهره الجزئية وبياناته ومعلوماته وجوانبه المتفاعلة والمنعكسة على بعضها البعض. وحقيقة هذه الصورة، من منظور التلقي، لا تكمن في تشكيل التوافقات بين العناصر، بل في، طريقة التشكيل نفسها. ومن هنا نرى أن كل تحديد صارم للصور الروائية لا يمكن تحققه إلا بالكشف عن مجموع الطرائق التي يمارسها الوعي لتمثل الصور من خلال العناصر الجمالية المقترحة من لدن المبدع في كل متن روائي. ” .
ولن يتحقق ذلك التفاعل الذهني إلا بمراعاة الصورة الكلية العامة. و”إذا كانت الصورة الجزئية تتسم بالحضور الفعلي داخل النص، فإن الصورة الكلية توجد دائما في حالة غياب، يستحضرها المتلقي بعد اطلاعه الكلي على المتن، اعتمادا على مجموعة من مرتكزات القراءة وقوانينها”. .
أما السياق اللغوي، فيحيلنا على التصوير اللغوي، واستجلاء المكون اللغوي، ودراسة الأساليب وخصائص الكتابة التصويرية على مستوى التعبير والتشكل اللغوي، بالتوقف- مثلا – عند الصور السردية الكبرى لدراستها وتأويلها، وتبيان خصائصها الفنية والجمالية بعيدا كل البعد عن بلاغة الشعر. بمعنى ” أن الصورة الروائية، من حيث هي مظهر أسلوبي، تعبير نسقي عن التماثل البلاغي المتجذر في السياق الكلي للمتن. ومن هنا افتراقها عن الصور البلاغية التزيينية التي قد تندرج في إطار السرد. إلا أنها تظل فيه في وضعية افتقار إلى سمات التكوين الروائي. ” .
وعليه، لا يمكن للنقد العربي أن يكون نقدا حقيقيا، في مقاربة النصوص السردية والقصصية، إلا بتمثل معيار الصورة الروائية أو بلاغة الصورة السردية الموسعة، باتباع مجموعة من الخطوات المنهجية، مثل: قواعد الجنس، والطاقة اللغوية، والطاقة البلاغية، والسياق الذهني، والسياق النصي وغيرها .
وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن الصورة، بصفة عامة، تصوير لغوي وعقلي وذهني وخيالي وحسي، قد تنقل العالم الواقعي أو قد تتجاوزه نحو عوالم خيالية وافتراضية أخرى. لكن أهم ما في الصورة هو طبيعتها اللغوية والفنية والجمالية الخاصة، وارتباطها بمتخيلات غنية وثرية. كما أن للصورة آليات تعبيرية قد تتجاوز الصور الشعرية إلى صور نثرية وسردية ودرامية موسعة، تجعل من مبحث الصورة عالما منفتحا وخصبا.
وفوق ذلك كله، تؤدي الصورة مجموعة من الوظائف التي يمكن استكشافها واستجلاؤها عبر السياق التداولي والكلي للنص أو الصورة على حد سواء.
هذا، ويستند معيار الصورة، سيما الروائية والسردية منها، إلى مجموعة من الخطوات المنهجية، مثل: قواعد الجنس، والطاقة اللغوية، والطاقة البلاغية، والسياق النصي، والسياق الذهني.
هذا، ونختم كلامنا بقولة أستاذنا محمد أنقار: ” نفترض أن اعتماد (معيار الصورة) في النظر والمعالجة النقدية من شأنه أن يتيح للنقاد إجراءً منهجياً مشتركاً لضبط وظيفة الكشف عن الآليات الجمالية المتحكمة في الإنتاج الأدبي، وتقليص الحواجز المصطنعة القائمة بين مختلف الاتجاهات والمذاهب النقدية.
من أجل ذلك نرى أن الوقت قد حان كي تتبوأ بلاغة الصور السردية مكانها المناسب في ميدان النقد الأدبي، وتلملم نتائجها المتناثرة، وتجلي علاقاتها المبهمة مع الأجناس الأدبية ونظريتها، وتنتظم رسميا، بفعالية، في سياق الإنشائية المعاصرة. ” .
– ارتباط الصورة الروائية أو الصورة السردية بالاستعارة بتخيلاتها الجمالية المختلفة
من المعلوم أن التشبيه والاستعارة هما من أساليب الكتابة الأدبية التي يستخدمها الكاتب لإضفاء معنى عميق وتأثير معين على النص
والتشبيه هو مقارنة بين شيئين لإظهار التشابه بينهما وتحقيق تأثير فني على النص. على سبيل المثال، “كانت عيناها كالنجوم اللامعة في السماء الصافية”. هنا يتم مقارنة عيني الشخص بالنجوم لإبراز جمالهما وللإحساس بالتأثير الرومانسي والشاعري.
أما الاستعارة، فهي استخدام كلمة أو عبارة لتصف شيء آخر بما يعتبر شائعًا أو مألوفًا لدى المتلقي. ومن خلال هذا التغيير في اللغة يتم تعزيز الفكرة أو الدافع خلال النص بشكل عام ، يمكن اعتبار التشبيه والاستعارة من الأساليب الأدبية التي تثري النص وتمنحه مستويات جمالية وروحانية عالية.
وإن ما يميز الأعمال الأدبية هو انطواء بنيتها الدلالية على المعنى المزدوج، أو ما يسميه ريكور «بفائض المعنى». وما دامت الاستعارة هي محك القيمة الإدراكية للأعمال الأدبية، فإن ريكور، من خلال الوقوف عندها، يعطي «نظرية الدلالة اللفظية كامل امتدادها الممكن».
لقد ظلت الاستعارة، طيلة المسار البلاغي ، أي منذ السفسطائيين وأرسطو، وإلى حدود القرن التاسع عشر مجرد تعبير مجازي أو صورة شعرية «توفر فيها المشابهة سببا لإحلال كلمة مجازية محل كلمة حرفية غائبة»، ومن ثم فإنها تختلف عن الكناية «التي تحل فيها المجاورة الموقع الذي تحتله المشابهة في الاستعارة».
أما النظريات النقدية المعاصرة، فإنها ترى إن الاستعارة هي ابتكار دلالي تلقائي، على الرُّغم من موقعها في اللغة العادية، لكن بمسند غير متوقع على عكس الاستعارات الميتة التي لم تعد تحمل من الاستعارة سوى الاسم فقط لأنها حصرت المعنى وسيّجته وأصبحت، من ثم، كلاما عاديا. فعبارة «أرجل الكرسي» مثلا لم تعد تحقق التنافر في الجملة، وبذلك فقدت دهشتها وديناميتها في تغريب الكلام..
والحكي، باختلاف أشكاله، يستطيع أن يختزل الطابع المشترك للتجربة الإنسانية على اعتبار أن الفعل السردي زمني بالأساس. يقول ريكور: «كل ما نحكيه يحدث في الزمن، ويستغرق زمنا ويجري زمنيا، وما يحدث في الزمن يمكن أن يحكى. ولعل كل سيرورة زمنية، لا يعترف لها بهذه الصفة إلا بمقدار ما هي قابلة للحكي بطريقة أو بأخرى».
تبدو الإشكالية الزمنية والسردية في غاية الصعوبة إلا أنها تتقلص استحالتها كلما انتظمت اللغة في خطابات أكبر من العبارة، كالنصوص مثلا، محكية كانت أم شعرية أم نقدية. وفي هذا الإطار يستعير ريكور من أرسطو مصطلح الميثوس الذي يعني الخرافة أو الحبكة، وذلك بغاية تحديد عمارة التركيب اللفظي لأي نص حكائي.
لقد وجهت موضوعة الحبكة كل الجهود الذي بذلها ريكور في أثناء بحثه في التاريخ، والملحمة، والقصة الشعبية، والرواية الحديثة. لأجل ذلك، نجده يقف عندها معرفا إياها قائلا: «الحبكة هي مجموع التنسيقات التي تتحول من خلالها الأحداث إلى حكاية […] إن الحبكة هي الوسيط بين الحدث والحكاية[…] ذلك أن الحدث ليس مجرد حادثة أو شيء يقع بل هو مكون سردي». ولعل الكفاية القادرة على رصد ومتابعة هذه الترسيمة (أي الخطاطة السردية)، والمسماة حبكة، ستمكن صاحبها، لا محالة، من الفهم.
ولما كان الحكي هو سرد لتاريخ بشري، سمته الأساس اللّاتجانس، فإن الحبكة، كوحدة سردية، هي وحدها القادرة على أن توحد بين هذه العناصر اللامتجانسة لتجعل منها « كلية واضحة مفهومة».
والحاصل إن عالم النص (التخييل)، يدخل في صراع مع العالم الواقعي (التاريخ)، إما من أجل إثباته أو نفيه. إلا أن العمل الفني الرائع، هو ذاك الذي يقلق علاقتنا بالواقع، ويجعل اللغة تبدو «خطيرة «، بتعبير هولدرلين قبل نيتشه.
ونحلص من ذلك: أنه إذا وجد المشبه به، فهي تصريحية، وإذا وجد المشبه، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه – فهي مكنية.
وتنقسم الاستعارة إلى أصلية، وهي ما كان فيها المستعار اسمًا غير مشتق، كاستعارة الظلام للضلال، والنور للهدى.
وإلى تبعية، وهي ما كان فيها المستعار فعلًا أو حرفًا أو اسمًا مشتقًّا، نحو: ركب فلان كتفي غريمه؛ أي: لازمه ملازمة شديدة.
ويرتكز علم السرد فى تكوينه على أربعة عناصر هى:اللغة – الحوار ( الخطـاب )، والزمـان،والمكان،و الشخصيات.ولما كانت الرواية خطاب وبنية فإن تحليل بنية خطـاب الروايـة ذو أهمية فى الوقوف على خصائص هذا الخطاب من المنظور الأسلوبى والبلاغي والأدبي.
ويرى باختين “أن لكل نوع أدبى أسلوب خاص، وهذا الأسلوب هو بالدرجة الأولى أسلوب لغوى .”
ويضيف باختين إلى ذلك بعدا آخر يميز النوع الأدبى هو الإنسان المتكلم فى هـذا النوع، إذ بهذا الإنسان تتحول اللغة من كونهـا لغـة إلـى كونهـا خطابـا أى ملفوظـا لغويا.ويتحول الجنس الأدبى إلى جنس تعبيرى له لغته الخاصة وأسلوبه الخاص”
أي: أن اللغة هى أسلوب المسرود وتكمن دراستها من خـلال رصـد الظواهر البارزة فى النص للوقوف على شفرة النص وإدراك جمالياته .
وقد يتحدد مفهوم الأسلوب من زاوية الخطاب أو النص نفسه على أنه الطاقة التعبيرية الناجمة عن الاختيارات اللغوية…وقد حصر (شارل بالى) مدلول الأسـلوب فـى تفجر طاقات التعبير الكامنة فى اللغة، ويعرف (ماروزو) الأسلوب بأنه اختيار كاتب ما من شأنه أن يخرج بالعبارة من حالة الحياد اللغوى إلـى خطـاب متميـز بنفسـه، التـى تحـددها طبيعـة الشخص المتكلم أو السارد ومقاصده.
ولأن عنصر الاسلوب لا يمكن تجريده لا من المؤلف ولا من المتلقين تهـتم الدراسـات الأسلوبية الحديثة بالمخاطب وهو مستقبل الرسالة، وهو المستهدف بالخطاب، ولذلك كـان عنصرا أساسيا فى عملية الإبداع الأدبى وهو أحد أركان نظرية الاتصال.
وبتعبير آخر إن الظاهرة الأدبية ليست هى النص فقط، ولكنها القارئ أيضا، بالإضافة إلـى مجمـوع ردود فعله المكنة على النص وعلى القول وإنتاجية القول.
رابعا — الوقوف على خصائص السرد الروائي من المنظور البلاغي
تتعدّد أنواع النصوص في اللغة العربية، ومنها النص السردي والنص الوصفي، إن مصطلح السرد يعني كيفية رواية القصة ومؤثراتها، ويكون في البداية ثم يلحقه الوصف، فيأتي من أجل نقل الأخبار بوسائل مختلفة، أما مصطلح الوصف عبارة عن انقطاع سير الزمن وتعطله أثناء وصف الراوي للحدث أو الأشخاص فيبدأ بوصف المشاهد الداخلية.
ويُعرف النمط السردي بأنه نوع من أنماط النصوص الأدبية بنوعيها الخيالية والواقعية، وهو طريقة أو أسلوب الكاتب الذي يتبعه في عرض الأحداث وتسلسلها في النص الأدبي الذي ينقله للقارئ، فهو يحاول إيصال فكرة النص للمتلقي ونقله للتفاصيل بعدة طرق مختلفة، من خلال تأليف قصة وسرد أحداثها وتسلسلها بأسلوب معين ومشوِق.
ويعرف السرد فى اللغة هو تقدمة شئ إلي شئ ، تأتي به منسقاً بعضه فى إثر بعض متتابعاً .
والسرد مصطلح نقدى حديث يعنى : نقل الحادثة من صورة الواقع إلـى صـورة لغوية وبعبارة أخرى يمكن القول أن السرد هو الطريقة التى يختارها الراوى أو القاص أو حتـي المبـدع (الحاكي) ليقدم بها الحدث إلى المتلقى فكأن السرد إذن هو نسج الكلام ولكن في صورة حكى .
فالسرد وفق هذا المنظور هو الكيفية التي تُروى بها القصة عن طريق قناة مكونـة من التقاء ثلاثة روافد هي “: السارد ”و” المسرود ”و” المسرود له”، وتتأثر هذه القناة بمؤثرات تتعلق بالسارد والمسرود له والقصة ذاتها .
ويتضح أن فعل الحكي “السرد” لا يتم إلا من خـلال اللغة، التي لا تعطي للفعل السردي شكله أو جنسه الأدبي فحسب، بل تنفخ فيه روحه التـي يعيش ويخلد بها وإن فَني الجسد أو تغير من حالٍ إلى حال .
وإن العلاقة بين السرد والسارد فى النص الروائى علاقة جوهرية؛ إذ على ضـوئها تحـدد المؤشرات الكبرى فى السرد فذات السارد تضفى على لغة السرد ظلالا خاصة والسارد إما أن يكون بأسلوب الغائب أو الشـخص( المتكلم أو الراوي)
و وفق هذا الأسلوب من السرد تتحدد زاوية رؤية الراوى سواء كانت حقيقية أم خيالية. وهناك تعريف آخر وهو أن الراوي واحد من شخوص القصة ، إلا أنـه قـد ينتمى إلى عالم آخر غير العالم الذى تتحرك فيه شخصياتها ، ويسمح له بالحركة في زمان ومكـان أكثـر اتساعاً من زمانها ومكانها ، فبينما تقوم الشخصيات بصناعة الأفعال والأقوال والأفكار التى تدير دفة العالم الخيالى المصور ، فإن دور الراوى يتجاوز ذلك إلى عرض هذا العالم كله من زاوية معينة ، بينما تنتمـ ى سائر الشخصيات إلى عالم الأفعال التى تصنع ، فإن الراوى ينتمى إلى عالمين آخرين هما : عالم الأقوال ، وعالم الرؤية الخيالية التى ترصد منها هذه الحياة .
ويتجلى ذلك في قصة قصيرة بعنوان ( نهر الحكمة ) للكاتب المصري محمد الشرقاوي

قصة قصيرة فيها سرعة وتوتر وتكثيف للمعاني يعالج من خلالها الكاتب المصري محمد الشرقاوي مرضا اجتماعيا خطيرا، وهو التفكك الأسري الذي بات كالسوس ينخر في جسد المجتمع كله، لأن الأسرة هي لبنات بنائه التي لا يستقيم إلا بها، فإذا أصابها العطب والانحلال انفرطت حبات المجتمع بأسره. تقوم فكرتها على استيحاء تشبيه الأسرة حين يحدث الشقاق ويترك الأب زوجته بعيدة عنه ويتخلى عن أولاده بالسفينة التي تركها رُبَّانُها في عرض البحر وامتنع عن مواصلة القيادة، لتلقَى مصيرها وسط الأمواج العاتية، ولا شك أن أمواج الحياة بالنسبة للأسرة بلا راع قاسية تفضي بها إلى مصير غير محمود.
وكثيراً ما يقارنون الناس حياتهم بالأنهار. يقول الناس إن الحياة عبارة عن نهر. يتدفق كما تشعر، ويغير مساره في كل مرة، لكنه ينتهي دائمًا في اتساع المحيط . ام أنهم يقارنون الحكمة بالنهر ومع تدفق النهر: استعارة للحياة تم استكشافه على سبيل الاستعارة التصريحية .
أي: استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المستعمل فيه مع قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي .
و هذا التعبير الفني يسميه علماء البلاغة ” الاستعارة التصريحية التبعية “. استعارة رائعة ، إنها بنظمها الفريد وبإيحائها وظلها وجرسها قد ترسم منظر بديعاً .
والكاتب شبّه النهر بإنسان يمتلك الحكمة وحذف المستعار منه (الانسان) وكنى عنه بشيء من خصائصه وهو الفكر .
ونلاحظ أن أداة التشبيه لا تُذكر مطلقاً، وغالباً ما يأتي هذا النوع من التشبيه على هيئة الحكمة. وهو أعلى أنواع التشبيه بلاغةً.
لقد سمعت الناس كثيراً يقارنون حياتهم بالأنهار. يقول الناس :إن الحياة عبارة عن نهر. يتدفق كما تشعر، ويغير مساره في كل مرة، لكنه ينتهي دائماً في اتساع المحيط. لكن لا، لا أعتقد ذلك. قد تكون الحياة نهراً، لكن عندما تفكر في الأمر كثيراً، ستدرك أن الحياة ليست سوى تدفق النهر. وأنت، أيها الإنسان، النهر. وتجلى ذلك في قصة ( نهر الحكمة ) ضمن مجمعة قصصية بعنوان : (حين ترقص الأحلام ) للكاتب المصري محمد الشرقاوي . ،( وهنا يقف سالم صائحا : كيف ذلك ؟ ألا يخشى الغرق ؟ وإذا كان لا يخشى على نفسه ، فكيف يضحي بالمسافرين ؟ يسأله العم قائلا : ولماذا غضبت هكذا يا ابن أخي ؟
– لأن هذا أمر لا يصدر عن عاقل مسئول .
– وهل تتوقع نتيجة ذلك الفعل ؟
– نعم يا عمي ، بالتأكيد سيغرق الجميع .
ومن المعلوم أن الحياة لا تتغير من أجل أحد والإنسان هو من يقرر تغيير مسار حياته. والحياة لا تسير في الاتجاه الصحيح الذي تريده . أنت من يقرر أن تسير في الاتجاه الذي تريده. الحياة تسير فقط في أي اتجاه تختاره .لقوله تعالى : ” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ” الرعد:11
أي لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير ، إما منهم أو من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم بسبب .
وعندما يكون الاتجاه الذي تسلكه خاطئًا، فسوف تأتي نقطة حيث يمكنك تصحيح الأمور.
ما يهم هو كيف يتدفق النهر نهر الحكمة . وهذا كل شيء. أي اتجاه تقرر أن تتدفق فيه ليس سوى مسار. مسار يأخذك إلى مكان مقصود أو غير مقصود .
حتى تجد وجهتك. أي المكان الذي تنوي أن تكون فيه،. فالوجهة تختلف من شخص لآخر. والسعادة تختلف من شخص لآخر ، وكل ذلك يعتمد على عناصر تجربتنا. من خلال الواقع .
وهذا تجلى في محاولة إقناع البطل العم الحكيم الذي آتاه الله قبولا وقدرة على الإصلاح بين الناس، سالم المكافح والمعروف بشهامته، وشخصية ومهارة الحكيم في التأثير عليه واجتثاث الغضب والألم من قلبه والإقناع بالكلمة الطيبة بضرورة إنهاء الخلافات مهما حدث، وخاصة الخلافات الزوجية بصرف النظر عمن أصاب أو من أخطأ.
(يقول الرجل الحكيم : أليست الأسرة مثل السفينة إن تركها قائدها غرقت بمن فيها ؟)
( وهنا يبتسم سالم مدركا مغزى القصة قاطعا على نفسه عهدا أن يصلح ما بينه وبين زوجته دون وسطاء وأن يكون الحب والتفاهم والتعاون هو شعار المنزل وألا يتخلى عن قيادة السفينة مهما رأى من متاعب الدنيا التى لا دخل فيها للزوجة ولا للأبناء ).
إن استخدام الكاتب تقنية ( الحوار السردي ) فى المقطـع السـابق يبـرز التفهم بـين شخصيته وشخصية البطل ( يفرغ الحاج محمود من قراءة ورده اليومي من كتاب الله تعالى ، ينظر في هاتفه ، أرقام الساعة تعلن عن تمام الثامنة مساء ، . لحظات قليلة بعدها يسمع رنين جرس الباب)
وتجئ استعانة الروائى فى تلك العبارة الاستهلالية بعامل الزمن و بالحديث على لسان الراوي
وفى مقطع آخر يقدم الروائى البطل مزيد اً من المعلومات عن شخصية البطل/السارد مـن خلال ما يرويه عنه،( يقول الرجل ( الحكيم) : كان على متن إحدى السفن عدد كبير من المسافرين وبينما هي في عرض البحر تصارع الأمواج العاتية وتخشى الرياح الشديدة إذ حدث أمر عجيب . يزداد انتباه سالم ويسأل بشوق : ماذا حدث يا عمي ؟ )
استطاع الكاتب فى خلال المقطع السابق أن يعبر على لسان البطل عن مكنون نفسه ومـا يعانيه من صراع نفسى متمثل فى عدم إحساسه بذاته وشعوره ،ويفعل كل ما يؤذيه فى محيط التفكك المجتمعي عامة والأسري خاصة .
كما يتضح من الفقرة السابقة استعان السارد – للتعبيـر عـن حالتـه النفسية المليئة بالألم ، وقد ساعدت آلية استخدام السرد على إبراز مشاعر الشخصية المتمثلة فى العقل والفكر والرشد على التفكك والتشتت بسبب الواقع، ومنحهـا كثيـر اً مـن الصـدق والحكمة
.( يسأله العم : هل ما زلت مصرا على معرفة بقية أحداث القصة ؟ يجيبه سالم : النتيجة معروفة يا عمي ، لقد أدركت الآن لماذا يطلقون عليك لقب حكيم القرية ) .
النتائج :
– اعتمدت علاقة السرد بالسارد على السرد الراوى – .
– يخاطب الراوى القارئ فى بعض المواضع لتوضـيح الحكمة .مما يؤدى إلى التفاعل النصى بـين القـارئ والنص .
– لم تخل الرواية من خط زمنى ويرجع ذلك إلى أحد أنواع التفكك الأسري الذي يعـانى منهـا
الراوى مما أدى إلى تحقيـق أغراض دلالية وجمالية .
– اتضح في عنوان القصة ( نهر الحكمة ) تشبيه أضيف فيه المشبه به للمشبه وقدم عليه والأصل حكمة كالنهر في الغزارة .
– أورد السارد بعض الجمل ليحبك الأحداث ويحقق حركية السرد وتطوره الدرامي
ويثري توتره على مسار الحبكة السردية .
– اعتمد الكاتب على لغة السرد البلاغية من خلال آليات دلالية من قبيل: التشـبيه،
والاستعارة، الألفاظ ذات الدلالات المعنوية .
– ظهر فى عنوان القصة مظهر بلاغي تتداعى فى جملـة ( نهر الحكمة) والتـى تتـداعى بوجودهـا معـانى : التفكك، الشقاق، الغيـاب، الخـوف ،التوتر .
– احتشدت القصة بمعان نفسية وعاطفية عبر عنها الكاتب مـن خـلال وحـدات معجمية ذات دلالة معنوية من قبيل: الخوف ،الغرق، ، فقد الامان .
– ظهر في القصة مستويا ن للغة: لغة سردية عادية ،لغة قريبة من لغة المجتمع بما تحويه من سمات بلاغية هى التشبيه .
– لغة القصة متماسكة ، مقبولة لدى القارئ .
ثبت المصادر والمراجع
– أرسطو: الخطابة، ترجمة: عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة2008م.
– – باختين: الخطاب الروائى، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،
– بالقاهرة،١٩٨٧. م
– حميد لحمدانى: بنية النص السردى (من منظور النقد الأدبى) ، الطبعة الثالثة، المركـز الثقـافي العربى،الدار البيضاء ، ٢٠٠٠م
– جون كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م
– عبد الرحيم الكردى : الراوى والنص القصصى ، دار النشر للجامعات ،القاهرة، ١٩٩٦م.
– – صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، القاهرة، لونجمان ١٩٩٦. م
– – صلاح فضل (دكتور):علم الأسلوب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة
– قدور عبد الله ثاني: سيميائية الصورة، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى سنة 2007م.
– محمد أنقار: بناء الصورة في الرواية الاستعمارية صورة المغرب في الرواية الإسبانية , دار الحكمة , 2016 م.
– محمد الشرقاوي – حين ترقص الأحلام – مجموعة قصصية, دار زهور المعرفة مصر 2022 م
– محمد بن أبى بكر عبد القادر الرازى: مختار الصحاح ، نشر دار المتنبى للطباعة والنشر، بيروت ،١٩٨٢م .
– – محمد عنانى: المصطلحات الأدبية الحديثة ،دراسة ومعجم انجليزى -عربى، لونجمان، ط٣ ،٢٠١٢م
– – محمد محمد ابو موسى: دلالات التراكيب، دراسة بلاغية، ط٣ ،٢٠٠٤. م
– -Lewis, Barry:Pasa modernism and Literature and novel,2004
– A regarder : Paul Ricœur : La métaphore vive, Ed.Seuil, Paris, 1975