محمد نبيل محمد يكتب : الامن الثقافى والهوية الوطنية

هل نتحرر من ثقافة العبودية للهواتف الذكية وتطبيقاتها (!)

الكاتب محمد نبيل محمد

“خير عادة للمرء إلا يكون عبدا للعادة” ما أبدع تلك العبارة التى تقول البلاغة عنها :”كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” تلك المقولة العبقرية لقائلها “محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفرى” وهو من أهم علماء التصوف فى القرن الرابع الهجرى، ويجمع فكره بين التصوف والفلسفة والأدب، … وكما تحدث الشعر الفرنسى عن سولى برودم:” إن جميع من تستولى عليهم قوة العادة يصبحون بوجوههم بشرا وبحركاتهم آلات”… أما جان جاك روسو فيقول عن اعتياد مشاهدة البؤس والألم والقبح:”إن المعاينة المستدامة لمشهد البؤس تقسى القلوب”… وأيضا تعدّ العادة عائقا أمام الإبداع، فحقا العادة تقف كعقبة ابستومولوجية فى وجه المعرفة، وهذا ما ظهر جليا عند هؤلاء الكفار والمشركين عندما كما كانوا يقولون “هذا ما وجدنا عليه أباؤنا” لأنهم اعتادوا ما اعتاد عليه من سبقهم ولو كان فى هذا المسلك كفرا وشركا عقائديا، ووقفت العادة أمام التفكر والتدبر والتجديد والابتكار، كما وقف جاليليو جاليلى عالِم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، الذى وُلد في بيزا في إيطاليا، ويلقبونه بـ “العلّامة” فقد نشر نظرية مركزية الشمس والتى جاء بها كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، وقام أولاً بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، ولأن جمود العادة حال دون مناقشة أفكاره الجديدة حول كروية الأرض فنال عقابه بسبب الخروج عن قيد العادة بالحرق.

وكما ان العادة تقتل الابداع وان كانت توفر الجهد والوقت والتفكير إذا كانت محمودة ومراجعة عقليا ومطورة طيقا لتغير مستخدميها بالزمن والمكان والظرف، … وتقول فى ذات المعنى الروائية الجزائرية كورين شيفالى 1935:” ان العادة هى آداة الحياة والموت حسب استخدام الفكر لها” … وبالطبع، فهناك عادة فعالة يحكمها العقل وأخرى عادة منفعلة هى التى تسيطر على العقل وربما تقتله او على الاقل تحييده.

أما الشاعر التشيلى المعروف بأيديولوجيته الشيوعية، وهو ريكاردو اليسير نيفتالى رييس باسولاتو بابلو نيرود

المعروف بـ “بابلو نيرودا”وولد بقرية بارال بوسط تشيلي فى 12 يوليو 1904 وقال ناظما :” … يموت ببطىء من يصير

عبدا للعادة، من يستعمل كل يوم نفس الطريقة، من ﻻ ﻳﻐﻴّﺮ ﺃﺑﺪﺍً عاداته، ﻣﻦ ﻻ ﻳُﺠﺎﺯﻑ ﺑﺘﻐﻴﻴﺮ ﻟﻮﻥ ﻣﻼﺑﺴﻪ .. ﺃﻭ ﻣﻦ ﻻ

ﻳﺘﺤﺪّﺙ ﺇﻟﻰ ﻣﺠﻬﻮﻝ …” وهو ناظم أشهر ديوان بالاسبانية عندما كان فى التاسعة عشر من عمره فى 1924

“عشرون قصيدة حب وأغنية يأس” ويذكرنى هذا العنوان بشبيهه وقد صدر عن المشروع الأعظم “ثقافيا” فى العقود

القريبة السابقة وهو “مكتبة الأسرة” عن شاعر الفصيحة الفذ “فاروق شوشة” وهو “أحلى عشرون قصيدة فى الحب

ـ فى الشعر العربى” فى 1991 ثم اعيد نشره بمكتبة الأسرة، وعنوان آخر يشبهه للاعلامى “عمر بطيشه” وهو

“قصائد حب”فى 2011 ونعود لشاعر تشيلى الذى رغم حياته الفقيرة إلا انه تقلد وظيفته كسفير لبلاده كما حدث مع

شاعرنا الشامى “نزار قبانى” ونال بابلو جائزة نوبل فى 1971 وتوفى عقب تغير السلطة فى بلاده عندما اقتحم منزله

الجنود باحثين عن سلاح ربما يخفيه فى بيته، وهنا كان رده لهم:”ليس لدى سلاح غير الشعر” وتوفى بحسرته بعد

أيام من تلك الواقعة فى سبتمبر 1973 كما رحل شاعرنا المخلص صلاح عبد الصبور إثر مشاركة الكيان الصهيونى

بمعرض القاهرة الدولى للكتاب عندما كان يترأس الهيئة المصرية العامة للكتاب وكان معروفا عنه مقاومته للعدو

الصهيونى، واتذكر له خالدته عن أكتوبر وعلم مصر”إلى أول جندى رفع العلم” إذ نظم مفتخرا بعلم الوطن وجنده :”

تملّيناك، حين أهلَّ فوق الشاشة البيضاء.. وجهك يلثم العلما.. وترفعه يداك.. لكى يحلق فى مدار الشمس.. حر

الوجه مقتحما”

ونكرر ما نظمه بابلو عن عبودية العادة:” يموت ببطىء من يصير عبدا للعادة” ومن هنا نبدأ الحديث عن ما اعتدناه فى

التعامل مع الهاتف المحمول “الذكى” الذى يتلصص علينا طواعية وبرغبتنا “الساذجة” وبحيث أنه ذلك الشيطان

المحمول يبتر أواصر علاقاتنا بأهلنا وأقاربنا وأصحابنا وجيراننا بل وابنائنا وازواجنا ووالدينا، فنكتفى فقط بتواصل مع

أرحامنا بصورة “افتراضية” ونكتفى بالمعايدة فى مناسباتنا العائلية والدينية والقومية ـ فقط ـ بارسال صورة كرتونية

“تافهة” أو جامدة “متلبدة” بل وطال “الكسل” حالات مشاركة الأحزان فى الوفاة أو المرض أو المصائب فنكتفى فقط

بمراسلة هؤلاء المنكوبين أو المصابين بـ “دمعة” أو “وجه حزين” وبهذا نكون قد أدينا ما علينا”عجبا” لشعب كانت أكرم

صفاته “التواصل والتراحم والمشاركة” فقد تحولت مشاعرنا إلى تلك الصور الجاهزة “المقولبة” ولا مانع من ارسال

“اعجاب” لحالتين متضادتين “فرح وحزن” منتهى الأزدواجية “المريضة” .

إنما المرض النفسى التالى الذى مرضنا به نتيجة عادة التعامل مع تطبيقات الهواتف المحمولة كان كما يقول العمل

الدرامى “أنا لا أكذب لكنى اتجمل” لكاتبنا الرومانسى احسان عبدالقدوس ابن أعظم صحفيات الوطن خلال القرن

السابق “فاطمة اليوسف” وبمشاركة المخرج ابراهيم الشقنقيرى، … فنحن نكذب لا للكذب على مواقع التواصل بل

للتجمل، وهنا لا يسعنا الا ان نردد “أيها الخجل أين حمرتك” فيتجمل بالكذب غالبية مستخدموا تطبيقات مواقع

التواصل، فيكتبون عن البطولة وهم جبناء، وعن الفداء وهم مدبرون، وعن المحبة وهم كارهون، وعن السعادة وهم عبوس …، والرزيلة الثالثة كانت فى “التأسد” فترى عجب العجاب من القوة والشدة فى ساحات الميادين الافتراضية

وأصحاب تلك الأراء الشجاعة “كتابة وشفاهة فقط” مهم قطط أليفة وربما نعاج فى الحقيقة كما يقول الشاعر:” الإمام

الشافعى” :” لا تأسفن على غدر الزمان … لطالما رقصت على جثث الأسود كـلاب … لاتحسبن برقصها تعلو على

أسيادها … تبقى الأسود أسود والكلاب كـلاب ” ويستكمل “أما ترى البحر تعلو فوقه جيف… وتستقر بأقـصى قـاعه

الدرر”

ونتعجب من هذا المرض الذى تفشى بين مستخدمى مواقع التواصل.

وليس آخرا، نجد مرضا آخر فى ” التنظير” حيث يتحول الجميع إلى سياسين، وعسكريين، واقتصاديين، ومصلحيين

اجتماعيين، وفتائيين، ومنجمين، ومفسرى أحلام و… يوتيوبرز، وتيك توكرز، وصانعى محتوى، وحاصدى معجبين

“فلورز” فضلا عن مجرمى الواقع الافتراضى من منتهزى الفرص لاصحاب الحاجات، ومدعى الخدمات، وسارقى

الأموال، وناشرى الفتن والأكاذيب والادعاءات، ومسفهى النموذج والقيم والمبادىء والأخلاق، وفاضحى الأعراض،

وهُدّام الأوطان، … وهؤلاء هم أعوان العدو، و”المصيبة” أننا نعلمهم، ونعلم نواياهم، وتلك المصيبة “الأعظم” … فهل

“سنُغير” من ثقافاتنا تجاه هؤلاء “الأعداء”، وهل “سنُعّدل”من عاداتنا فى استخدام الهواتف المحمولة، وهل

“سنَرفض” فضح خصوصياتنا وأسرارنا إلى التطبيقات المنتمية لهؤلاء “أعدائنا” فى الجوار أو عبر المحيطات والبحار(!)

هل سنهدم “صنم” الهاتف الذكى المحول ونتحررمن العبودية له؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.