عبد الناصر البنا يكتب : رمضان .. لما كنا صغيرين !!

خلوا بالكم الأعمار بتجرى وعلى رأى الصعايدة ” بترمح رمح ” والأيام بتعدى فى لمح البصر تصديقا لقول الله تعالى : وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
ياريت نغتنم فرصة هذا الشهر الكريم للعودة إلى الله قبل أن يجرى بنا قطار العمر ، أيام رمضان هى
أيام رحمات ومغفرة وعتق من النيران ، وأدعوا الله أن يعتق رقابنا من النار ، وأن يبارك لنا فى أعمارنا .
تخيل معى لما تبقى قاعد فى حالك وفجأة تطفو على سطح ذاكرتك ذكريات مر عليها زمن فات ، أعتقد الكثير مننا
مروا بهذه التجربة . أنا آخر حاجة عالقة فى ذهنى وكأنها كانت إمبارح ، لما كان عمرى 21 عاما . أتذكر يومها أنى
كتبت هذا الرقم بالخط الثلث وإحتفظت بالورقة ، اليوم عندما شرعت فى كتابة هذا المقال لا ادرى لماذا طفت على
السطح تلك الذكرى !! .
يمكن علشان وجدت هذه الورقة صدفة بين أوراقى ، تأملتها وإذ بها كتبت منذ ” ثمانيه وثلاثين عاما ” بالتمام والكمال
والعجيب فى الأمر أن هذه السنوات مرت فى لمح البصر ، فى غمضة عين ، كام واحد إتولد وكام واحد مات منذ كتابة
هذه الورقة حتى اليوم ؟ ” قلتها فى نفسى ” وصدى أغنية لميادة الحناوى يتسلل إلى سمعى تقول كلماتها ” كل
واحد منا عنده ذكريات . يفتكرها ساعات وينساها ساعات !! .
اليوم هو أول يوم فى شهر رمضان وأجمل مافى شهر رمضان أنه يحمل لنا من ” الذكريات ” الكثير ، وأجمل مافيها
ذكريات أيام الصبا ، خاصة ذكرى أول يوم صيام ، أول يوم صيام بالنسبة لى يعنى ” العودة إلى الجذور ” فى مسقط
رأسى بأقصى الجنوب ، والمعروف أن شهر رمضان بيعمل كده لفه يمر فيها على كل فصول السنة كل 33 سنه ،
وأكيد أغلبنا لف بيه رمضان على شهور كتيرة مابين ” صيف وشتاء وربيع وخريف “وأخد له 8 سنوات وكام شهر فى
كل فصل ، وكان فيها الكثير من الذكريات .
أتذكر أول يوم صيام كان فى شهر رمضان عام 1972 للعام الهجرى 1392 وقتها كان عندى 6 سنوات ، وأتذكر وقتها
رمضان كان فى شهر نوفمبر ، والمعروف أن نوفمبر هو شهر الخريف ، وهو دايما معتدل الحرارة فى النهار وبارد نسبيا
فى الليل ، وهى فرصه مناسبة لطفل فى سنى يصوم بدون تعب ، خاصة وأن الصيام فى فصل الصيف فى جو
الصعيد ” شديد الحرارة ” عادة مايكون صعب جدا ، وأعتقد أننا مع دخول الصيف فى السنوات التالية كان الواحد كبر ،
“وإتودك ” على الصيام كما يقول المثل العامى .
المشكلة أن الطفل فى الصعيد بيتولد راجل ، أهله بيتعاملوا معاه على هذا الأساس ، علشان كده كتير من أبناء
الصعيد لم يعيشوا طفولتهم ، يمكن عاشوها مع ولادهم فيما بعد ، فى حاجات لو قدر الطفل يعملها أو يقلد الكبار
فيها ومنها ” الصيام ” . لو الطفل قدر يكمل يوم صيام وهو يتنافس مع أقرانه يبقى راجل ، أى أن الصيام كان علامة
من علامات الرجولة ، وكان أول إختبار للطفل مع أقرانه أنه يقول له ” ورينى لسانك ” كدليل دامغ على أنه صايم .
الجميل فى هذا الأمر أن الطفل عندما يتعود على الصيام فى هذه السن المبكرة ، فإنه يكون قد جٌبل على هذا
السلوك ، وقل أن بفطر فى شهر رمضان تحت أى ظرف من الظروف وهو كبير ، بل أن هناك من يخالف تعليمات
الأطباء بضرورة الأفطار فى نهار رمضان ، وأنا واحد منهم بسبب التعود على الصيام فى الصغر ، وهناك من هو أبعد من
ذلك فمن العيب فى الصعيد أن تجد أحدا مجاهرا بإفطاره ، حتى لو كان لديه رخصة أعطاها له الله كونه مريضا أو على
سفر ، ورسولنا الكريم ﷺ يقول ” إن الله يحب أن توتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ” .
والصلاة مثل الصيام هى أيضا تعود ، فالأب إللى عندما يعود أولاده على الصلاة وهم فى سن صغيرة تجدهم أشد
حرصا على آداءها فى أوقاتها ، بخلاف من تعلم آداء الصلاة وهو فى سن كبير ، من السهل أن يفُوت أوقاتا بأى حجة
من الحجج التى يزينها له الشيطان ، وأعود ثانية إلى هذا اليوم ، أول يوم صيام فى خريف عام 72 ، ومعروف أن اليوم
فى شهر نوفمبر طويل نسبيا ، والوقت يمر ببطء شديد والنوم يجافى العيون لشدة الجوع مرت الساعات بصعوبة
حتى جاء وقت العصر ، وأتذكر وقتها أن عجلة الزمن قد توقفت تماما وكدت أن أفطر .
وقد خيل إلىً أن الساعة قد تسمرت فى مكانها ، والدقيقه كانت تمر بصعوبة ، وقتها ايقنت أننى فاطر لامحالة ،
اللحظات التى سبقت آذان المغرب كنت أتعامل مع أهلى بلغة الإشارة ، والحمد لله مر اليوم بسلام وأكملت الصيام ،
والجميل أننى كررت التجربة وصمت أكثر من يوم ، وكل عام كان عدد الأيام يزيد عن العام الذى سبقه ؛ ومع سن
العاشرة تقريبا كنت أصوم الشهر كاملا ، الشىء الجميل أننى حرصت على أن أعود أولادى على الصيام فى مراحل
مبكرة من عمرهم ، ولكن الأمر لم يكن مرة واحدة وإنما بدأ تدريجيا ، فى البداية الصيام حتى آذان الظهر ، وأخرى
حتى آذان العصر مع مضاعفة المكافأة ، وهكذا حتى وصلنا إلى صيام يوم كامل حتى أصبح الصوم فريضه يحرصوا
عليها .
بقى أن أشير إلى أن الجميل فى شهر رمضان أن أيامه أيام خير وبركه ، وفيه من الخير والرزق الوفير ، والأجمل أنك
تلاقى مصر كلها ” أقباطا ومسلمين ” فرحين بقدوم شهر رمضان ، وهذا الشىء مؤكد أنه يحمل بصمة مصرية ..
خالصة ” كل عام ونحن جميعا بخير ” وللحديث بقيه !!