الدكتور هيثم الطواجني يكتب : الصراع المسلح ما بين الفكر والفكر المضاد (3)

الدكتور هيثم الطواجني

نستكمل الحديث عن الصراع المسلح، ومتي تلجأ اليه الدول كوسيلة وليس غاية أثناء اداراتها للصراع بينها وبين من تختلف معه من باقي الدول والكيانات، ولأن جوهر الصراع بين الدولة وبين الأخرين يتمحور حول الفكر بالمقام الأول، فهو المحرك الرئيسي لكل الأحداث، فبادر المفكرون بابتكار نظريات عديدة تؤمن لصاحب النظرية ومعتنقوها التفوق، أو على الأقل توفر لهم الحماية من الآخرين،

ومنذ فجر التاريخ دوام البشر على إعمال الفكر مقترناً بالقدرات والإمكانيات لاستنباط نظريات مرنة، يمكن تطبيقها بالفعل علي أرض الواقع، وتقدم لمعتنقيها الأفضلية خلال الصراع الحالي والمحتمل، وفي أوقات كثيرة الصراع المستقبلي، مع الأخذ في الاعتبار حجم التهديدات القائمة، والمخاطر المحيطة، والتحديات المنتظرة، والفكر بحد ذاته عملية ذهنية مستمرة، يجريها عقل الانسان طيلة حياته في حركته وسكونه، أثناء نومه وخلال استيقاظه،

فالعقل البشري يجري هذه العملية القائمة علي الاستقراء والاستدلال والاستخلاص لمئات المعلومات والبيانات، وربما الالاف منها في سبيل الخروج بفكرة مكتملة يتم تنقيحها للوصول الي نظرية قابلة للتطبيق، فتصبح سياسة متبعة بالدولة، ومن ثم توضع لها الاستراتيجية اللازمة لإنجاحها، وهي الخطة التي تظهر فيها القدرة على التنبؤ والتقدير وتوظيف جميع الإمكانات وتدبير الموارد اللازمة من أجل تحقيق الغايات، والأهداف سلماً أو حرباً، طبقاً لمناهج علمية صارمة.

– وللدلالة علي ذلك ما فعله جدنا العظيم تحتمس الثالث أعظم حكام مصر، وأول من أسس إمبراطورية في ذلك الوقت ظلت باقية ما يقرب من أربعة قرون، وذلك حين واجه تهديدات تتمثل في استعادة وتثبيت السيطرة المصرية في آسيا بسوريا وفلسطين علي الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي، وبلاد النوبة علي الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي،

حيث وضع ونفذ أولي الاستراتيجيات العسكرية والسياسية في التاريخ، فخاض حملات عسكرية بلغت سبعة عشر

حملة ضد أعدائه، وذلك بأن أدرك التهديدات الواقعة علي حدوده، وأستعد لها بتقوية جيشه، فبنى القلاع والحصون،

وأعتني بتدريب جنوده، وأهتم بإمداد جيشه بأسلحة مبتكرة قوية مثل الأقواس المستحدثة، والتوسع في استخدام

العربات الحربية في القتال،

كما فطن تحتمس الثالث إلي أهمية السيطرة البحرية فقام بأنشاء أسطول بحرى قوى، مكنه من بسط سيطرته

على الكثير من جزر الموجودة بالبحر المتوسط مثل قبرص وسواحل لبنان وفلسطين حاليا،  وأبتكر تكتيكات عسكرية

غير مسبوقة، ومناورات لم تكن معروفة في زمنه، وأعتنق مبدأ الهجوم المتحرك لتحقيق النصر عوضاً عن الدفاع

الثابت، مؤسساً لمبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع قبل نابليون بونابرت بالاف السنيين،

وهذا بعض مما طبقه في استخدام الصراع المسلح (القوة الصلبة) كمرحلة من مراحل صراعه مع الأعداء، بينما هو

أول من أرسى قواعد القوة الناعمة في العالم حين رسخ سياسة تقضي بإرسال أبناء الأمراء المهزومين إلى البلاط

الملكي في مصر ليتم تنشئتهم، وتربيتهم وفق القواعد والأسس المصرية علي أن يختار الملك من بينهم الخلفاء

على مواطنيهم، لذلك كان الأمراء عادة راضين عن الحكم المصري لهم، وهكذا جسد الملك تحتمس الثالث في تبصر

فريد، وتدبر متفرد في هذا الزمن البعيد جداً، جوهر ومفهوم الصراع المسلح وأفكاره التي ترجح كفة طرف علي طرف

آخر في الصراع الدائر منذ بدء الخليقة (وللحديث بقية)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.