محمد نبيل محمد يكتب: الأمن الثقافى والهوية الوطنية
ثقافة الواقع الافتراضى وتخلى الآباء عن أبنائهم

إن جّل ما تتمناه الأم ألا ترى وليدها يبكى، ولا ينكر أحد منا أن فى هذا التمنى من الأم ومسالكه ـ عملا ـ لهو رحمة منها لطفلها، وما نشهده اليوم متعجبين من مشهده، هو أن تلهى تلك الأم أبنها عن البكاء بترك التليفون المحمول فى يده، لا ليلعب الطفل به، بل ليلعب التليفون بالنشء، ويشكل وجدانهم فيبكيهم ويضحكهم كما يشاء، ويصيغ ذاك “المحمول” الذى هو فى اللغة على وزن “المفعول” وفى الفعل هو الفاعل (!) يصيغ هذ الفاعل أنماط التفكير لأجيالنا القادمة فيشكلها كيفما يشاء، لا كما نريد نحن ونتمنى.
ألعاب تخلق لدي الطفل رغبات الانتقام
ويسكت بكاء الطفل الآن بانشغاله بهذا الجهاز الذى يشغله بألعاب تخلق لدية رغبات الانتقام، وتنمى دوافع العنف اللامتناهى،
وتثير غرائزه السلبية، وتحفز مشاعره لكراهية الآخرين، وتفعل بهذا الطفل الأعاجيب، ونحن ننظر إليه فى استسلام ولا نحرك ساكنا دفاعا عنه،
ولما لا وأمه أحن مخلوق فى الأرض عليه هى من قدمته قربانا حتى يسكت بكاءه وتستريح هى من عناء تربيته، ووالده هو من أجتهد فى عمله
ليدخر له من قوته ما يشترى به هذا الجهاز ليكون بديلا عنه فى رعايته لابنه، وليكون هذا التليفون مسئولا عن طفله عوضا عنه،
ربما هناك ما هو أهم عنده من تربية ورعاية وليده(!).
ويرتاح الوالدان من بكاء طفلهما اليوم بانشغاله بالتليفون المحمول ويتساءلون غدا لماذا يعق الولد والديه، وربما يصل حد العقوق لقتلهما
حتى يسكت أنين أمه ويكتم صراخ أبيه، فهكذا علماه ورباه والداه صغيرا، أو كذلك تركاه لآلة القتل أن تعلمه وتربيه عوضا عنهما
حتى يسكت صراخه وهو طفل.
لا ضير من استخدامنا لأشكال المدنية الحديثة.. ولكن
هذا التليفون المحمول لا جرم فى اقتنائه، ولا حرمانية فى استعماله، بل ليس فى وجوده خروج عن الأعراف والتقاليد،
ولا تخالفه الآداب العامة، ولا ينكره المنطق ولا يرفضه العقل، فحاله كحال “القلم” كما قال فيه نابليون :
“بالقلم أكتب حكما بالإعدام لجانى يستحق، وبه أكتب عفوا عن مظلوم يستحق”,
وكذلك رد الشعراوى “إمام العصر” عندما سئل عن حرمانية “التليفزيون” فقال: “العبرة فى استخدامه، هل نستخدمه فى مشاهدة المعاصى؟
أو نشاهد من خلاله ونسمع لما يصلح شأننا؟” فلا كان فى اختراع القلم أو التيلفزيون حرام أو عيب إنما كان فى طريقة استخدامنا
لأى من مظاهر الحضارة التى هى فى مسمياتها الإجرائية ندعوها بالمدنية، فلا ضير من استخدامنا لأشكال المدنية الحديثة،
إنما ما هى نوايا وكيفية الاستخدام؟ هذا هو الأهم، وبقول آخر: “هل نستخدم التكنولوجيا أم تستخدمنا التكتنولوجيا؟!”.
ألعاب مبرمجة خصيصا لوأد براءة الطفولة
الأم التى تركت وليدها آداة طيعة فى يد تطبيقات وبرامج ألعاب العنف، والمثلية، والإلحاد حتى يسكت بكاؤه، وتنعم هى براحة صمته،
وتحرم نفسها من نعمة تمنتها الأخريات المحرومات منها، وهى السهر على رعاية قطعة منها لا حول ولا قوة لها إلا بملاصقة هذا الجزء لأمه
ـ الأصل والكل ـ التى تتبرأ منه وتتركه، هل كانت تعلم أن هذه البرامج وتلك الألعاب برمجت خصيصا لوأد براءة الطفولة فى ابنها،
وزرع قيم الهدم لا البناء فى وجدانه، لتكون يديه فيما بعد معولوين للموت لا للحياة، ولتكون نفسه رافضة لكل من حولها، ولينكر عقله
حقوق غيره بل وجود الآخرين.
آداة فى يد أعتى جواسيس العدو الصهيونى
هل يعلم الآباء أن هذا الجهاز كان العدو الصهيونى يتلهف على زرع واحد أو اثنين منه بيننا فى الستينيات من القرن السابق
ليكون آداة فى يد أعتى جواسيسه بهدف التنصت على مجتمعنا، وتفريق أمتنا، وهزيمة جيشنا، وطورته المدنية شيئا فشيئا
ليكون فى متناول جميع أفراد المجتمع، بل يكد الفرد منا ويوفر من قوته للتباهى باقتنائه، ويجعله متاحا فى يد ابنائه، وهو لا يعلم
أن هذا الجهاز كان واحدا أو اثنين ـ فقط ـ منه بين مجتمع أو فى دولة ما، كان كفيلا بإسقاط هذه الدولة وتشريد مجتمعها،
والآن أصبح لدى كل منا جهاز وربما اثنين أو أكثر، بل نعطيه طواعية فى يد أبنائنا ونحن نعلم أن أى تطبيق أو برنامج به يتطلب موافقتنا
على منحه الإذن بالعلم والإحصاء بقائمة أرقام تليفونات الأهل والأقارب والمعارف، بل ذكرياتنا الخاصة ومناسباتنا العامة
وصورنا الخاصة جدا والعامة، ورسائلنا وكل ما نسميه بالخاص جدا(!)
إننا نسلم أبناءنا طواعية لهؤلاء الأعداء ليفعلوا بهم وبمستقبلنا ما يشاؤون، ولا يقول أحد أن هذه دعوة مريضة بنظرية المؤامرة،
لأننا بمنتهى البساطة لم تنتج عقولنا الوطنية هذه التطبيقات والبرامج، بل لم تصنع أيدينا أجهزة المحمول لا التلقيدية منها ولا الذكية بالطبع،
بل استوردناها بالعملة الصعبة من أجل تنازل كل منا عن مسئولية تربية أبنائه، واهمالنا بالانشغال بما هو أقل أهمية وتراتبية
فى حياة الإنسان والمجتمع وهم “أبنائنا”.
وللحديث بقية إن شاء الله.