“إحداهُن ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام

أحتفلت السماء .. زخت بعض زخات من مطر خفيف ، انعش الجو ، وفاحت رائحة ذكية من أشجار الكافور المصطفة على الجانبين
طوال الطريق الصاعد والهابط ، الرابط بين ميدان الكازينو حتى نقطة التقاء شارع ٩ مع كورنيش المقطم .. مالت الشمس نحو الغروب وتجملت السماء برداء برتقالى متداخل مع اللون الرمادى
لوحة تشكيلية طبيعة مدهشة ، حجمها يتسع لأفق السماء ، البيوت المتناثرة تحت سفح الجبل للمدينة العتيقة ،تبدأ بالمقابر وتنتهى عند الابراج السكنية شاهقة الارتفاع
ساكنى القبور تحت سفح الجبل كانوا يوماً ما يعيشون فى الأبراج السكنية ، يطلون فى أواخر الأيام المعتادة والمثقلة بالأحلام .. والأوهام .. والسعادة .. والآلام ، من نوافذ الحجرات الدافئة نحو الجبل يلقون التحية ، ويقرأون الفاتحة لساكني السفح ،
ومع مرور الايام وتوالى الصباح والمساء والاسابيع والشهور والسنين ، تتحرك مواكب القادمين من الأبراج والبيوت وصخب المدينة ، نحو مقرهم الأخير تحت سفح الجبل ، وتتمم الدورة ذاتها بلا كلل أو ملل .
فى المساءات الشتوية يخرجون من ديارهم تحت السفح الجبل ، يخلعون ارديتهم البيضاء الممزقة ، ينفضون عنهم الأتربة ، ويلتقون .. يجلسون على الشواهد الرخامية الباردة، يَسْمُرُون ، يتبادلون القصص القصيرة عن مغامرتهم العاطفية ، وعائلاتهم ، وسفرهم الطويل بلا نهاية ، يتابعون كشافات السيارات المضاءة الصاعدة الى قمة الجبل ، يسترقون سمع الأغانى وقصائد الحب وهمسات العاشقين ، ويضحكون من قلوبهم و ينتظرونهم فى الشتاء المقبل ، ليجلسوا معاً على الشواهد البيضاء الباردة يكررون معاً نفس القصص والمغامرات ،
ومع اشراقات الصباح الأولى يعودون الى ديارهم الأخيرة ، يرتدون مرة أخرى ثيابهم البيضاء الممزقة ويفترشون التراب وينامون على أمل مساء آخر واستقبال أصدقاء أخرين .. يأتون بحكايات ومغامرات جديدة .
ستون عاماً يقف منتظراً – على حافة الجبل – النزول اليهم ذات مساء يحكى لهم عن أفراحه وأحزانه فى البلاد الغريبة ، يوصف لهم ارصفة المسافرين على الطرق الصحراوية الشاقة بدون ماء ، وعن رحلات الوصول الى حقول الحنطة المزدانة بالزهور والعصافير الملونة.
فى الثمانين قال أبى : اليوم لصيق الأمس وما بينهما كان ثوان معدودات ، بعدها بأربع سنوات ، ترك لنا صورته على الحائط ، وتوقف عن رواية الحكايات ، ارتدى ملابسة البيضاء ، وهبط الى السفح يحدثهم عن ما رأه فى مخدع جنية
المحال .
بعدها نقلت عنه أمى لنا مغامراته فى مركبه الفضى بين الشواطئ والخلجان ، وزواجه بعروس البحر وعثوره على خاتم سليمان ، ثم تركت لنا الخاتم مع خريطة للكنز المفقود ، ووضعت صورتها فى برواز مذهب على الحائط بجوار صورة أبى ، وحملت منا له السلام.
منذ العصر الخرافى للتنانين المجنحة التى تبخ ناراً ، والديناصورات الشامخة كالجبال ، والطحالب الخضراء والخلية الأولى التى تزاوج نفسها ، لم تتوقف الرحلات اليومية بين قمة الجبل و سفحه ، بين الأبراج والشواهد الرخامية الباردة ، بين الأرض والسماء ، كل يوم استمع إلى حكاية رحلة جديدة .
عُدُتُّ من حيث اتيت ، ثم اتيت من حيث عدت ثم .. ثم .. ، أخرجت كل الصور القديمة افرزها واحدة .. واحدة .. أتأملها وأحادثها واذكرها بنفسى ، حتى تذكرتني إحداهم ، وضعتها جانباً ، وصنعت لها بروازاً من زهور بنفسجية جافة بلا عطر ، وجهزتها ، و اسندتها على حافة السرير فى انتظار الغد ، فى انتظار ان تعلق على الحائط .!