” بائع الوقت ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام
إهداء إلى روح الغالية مرفت صالح زوجة اغلى الناس ، بعد أيام من رحيلها.
فى اللحظات الاخيرة قبل بلوغ البكاء ، انظر فى ساعة يدى ، ورغم معرفتى بالوقت ، أُعَاود النظر مرات ومرات ، ثم انسى وأُعَواد النظر فى قلق ، اصبحت الثوانى بأهمية بما كان ، شريت منذ يومين أسبوعاً من السعادة من عند بائع الوقت عند مطلع الشارع من ناحية النهار ،
ابتسم واعطانى يوماً مضافاً من عنده ، عدت الى البيت ، دلفت الى حجرتى ، تبينت ملامح الاشياء بصعوبة ، جلست على اقرب مقعد ، منذ زمن لم ابتاع مصباحاً جديداً ، يبدو ان المصابيح اصابها شئ من الظلمة ، او إن الضعف اصاب عينى ،
لم ادرك بعد الحقيقة ولا الحقيقة حاولت إدراكي ، هرمت من المطاردة ، ف غَادَرّتْ ذات مساء ، اهملت موضوع المصابيح وركزت على الوقت ، الوقت السعيد والوقت الحزين والوقت البين بين ، اخرجت من دولاب الملابس الوقت البين بين فلم يعد مقاسى ، ذهبت الى ترزى الوقت ،
أبلغني بعين ماكرة انه لم يعد يصلح لى ، تركت الوقت البين بين على قارعة الطريق ، تحلق حوله اناس كثيرون راغبون فيه ، تعجبت ، وعدت …اخرجت الوقت الحزين ، صدمني لونه الباهت والخروق الكثيرة فى هيئته ، ورغم انى اعرفه جيداً ويعرفني إلا أنه أنكرني ،
يبدو انه ملّ منى ، سنوات يحمل عنى تبرير صمتى وسوء سلوكى ، وتطلعى خفيه فى غفلة منه الى السعادة ، كم من مرة ضبطني ، ارنو اليها خلسه ، احاول ان اعانقها ، ف هجرنى وتركنى اكابد الم الذكريات والفراق ، الان ما عاد يثق بى ، حزنى لم يعد يثق فى ، كيف حدث هذا واى جرم ارتكبت ؟ ،يتهمنى بالغدر ، .. الآن معى أسبوعاً كاملاً من السعادة مضافاً اليه يوماً آخر مجانى أعطانى إياه بائع الأيام ، تسائلت … لا أعلم من اين ابدأ ، تطهرت من بقايا الاوثان واخذت حماماً دافئاً وتطيبت وتهيأت وارسلت باقة ورد ثم بلطف
طرقت باب الاسبوع ، كان غافياً مبتسماً يحلم احلاماً سعيدة ، استاذنت ان ادخل لكنه لم يجاوبني ، ناديت لم يسمعنى ، اقتحمت الايام ودخلت احمل بيدى الزهور ارنو الى حيث اخر نقطة فى السعادة وقبل ان ابدأ .. انتهى الوقت !.
اتظاهر أن أحدهم يطرق بابى ، اجهز المكان وانشر العطر وارتدى ثياب الفرح ، ولا افتح الباب ، اطارد العناكب اهدم بيوتها بقسوة ، تسبقني الى القادم تنسيج خيوطها حوله بإحكام ، تعمل بهمة ونشاط تنتهى من عملها سريعاً ، لماذا تبنى العناكب بيتها من خيوط حريرية ضعيفة ، اهو الوهن ام الملل ؟ … تعرف العناكب حقيقة ، لا تعيش طويلاً ايامها معدودة ، لا تطيق العناكب المترادفات والمحسنات البديعية ، لا وقت لديها للزخرفة ، كل ماتريده يتحقق فى وقت قصير … قصير جداً ، تتحسس العناكب اعشاش العصافير وجحور الثعالب ، ومخابئ الثعابين وعرين الاسد ، ولاتترك الزهور ولا الاشجار ، الجميع فى شرف انتظارها عندما يحين الوقت ، الوقت ..، الوقت ..، وصور قديمة معلقة على حائط مهدم فى فضاء صحراوى واسع مهيب .
يشق السوط الهواء مصدراً صوتاً مرعباً قبل ان يهوى على جسد الاسد ، يقفز الاسد هارباً من الالم ، يقفز داخل طوق النار ، يمر ب جسده على اللهب ، يتمزق من الالم ، يشتم رائحة احتراق جلده ، يتمنى ان يمر الوقت سريعاً ( الذى بدأ مع صوت طرقعة السوط وبين ان يتم القفزة داخل طوق النار ليمر الى الناحية الاخرى ) ، طويلة تلك اللحظات ، كانه يقطع الارض ركضاً من اولها لاخرها ، لحظات الالم تساوى عمراً طويلاً ، وهو معلق فى الهواء ونصف جسده داخل طوق النار والاخر قد مر ، يذهب الى الغابة يطارد الفرائس فى المروج الخضراء يتساقط المطر على لبدته ينفضه ، تتناثر حبات المطر فى الهواء يقف على قدميه الخلفيتين ويشب وينظر ملياً للسماء ، ويمضى الوقت ويحاصره طوق النار والسوط وتصفيق الجمهور ، وفى اخر الليل تنتظره العناكب ….كل مساء بعد انتهاء الوقت .
لا تقتل الخوف بداخلك ، لن تعرف بعد رحيله طعماً للشجاعة ، الحياة نصفان ، نصف لك ونصف لها ، تعيش بداخلك وتعيش انت لها ، لا تتقدم نحوها اكثر مما مسموح لك ، الوقت لن يسمح ، برواز الصورة المعلقة على الحائط سجناً يحاصر المساحة حولك ، صنعته انت بيدك ، بحثت ثم وقفت واخذت كامل هيئتك وتدلت ابتسامتك من الفم تسيل على وجهك كما تسيل مساحيق التجميل على وجه المهرج اذا فجأه البكاء ، ……السيرك .. المهرج .. الفم الكبير .. المساحيق التى تسيل … الجمهور .. العناكب .. الاسد وطوق النار … برواز الصورة التى يحاصرها من كل جانب ، الذى صنعته بيدك ، كل ذلك مرهون بانتهاء الوقت .
عدت الى دكان بائع الايام فى اخر الشارع عند مطلع النهار ، احاول الشراء ، الايام المعلقة على المشاجب فى الفتارين صاخبة الضوء ، شكلها غريب ومقاسها لا يناسبني ، يدخل الصبيان والبنات فى ملابسهم المزركشة يبتاعون كل شئ ويذهبون عند الفجر يتقافزون ويغنون ويعزفون لحناً أبدياً منغماً وملوناً ومعهم فى جعبتهم الكثير من هدايا الوقت ، ارقبهم من بعيد عند حافة المساء القى عليهم تحية المسافرين الغرباء ، واحمل حقائبي الخالية من الثوانى والدقائق والساعات ، الخالية من … الوقت و ..أ ر ح ل .