محمد نبيل محمد يكتب الاستثمار الثقافى والمصرى الجديد (٢٢) .. الأخلاق سر الخلود والانتصار

الكاتب محمد نبيل محمد

لم يتحدث جون ماكندر صاحب نظرية قلب الأرض عن صفاء العنصر البشرى باعتباره أهم عناصر بنيان الدولة القوية القادرة على أن تكون هى قلب الأرض، وربما لم تتح له الفرصة كعالم ومنظر لعلم الجغرافيا السياسية فى دراسة ديموجرافيا المصريين وتاريخهم، وبالتالى استشراف مستقبلهم حال توافر بقية عناصر القوة المادية التى تمكن شعوب وسط العالم من امتلاك قلب الأرض والتحكم فيها, ونرى ان اصطفاف المجتمع خلف قيادته بحب واقتناع وليس بقهر وتجبر هو ما يُعَجل من مرحلية التطور والارتقاء نحو الحياة الكريمة والمنشودة, واستكمال لعناصر القوة لمصر الجديدة؛ نبحث معًا أسباب انتصار المصريين على الفقر والموت؛ فيتردد فى الأدبيات القانونية والاجتماعية أن فلاسفة القانون دائمًا ما يقولون إن القانون وحده لا يضمن بقاء الأمم، ولعل الأثر الأشهر على الإطلاق “أعطنى قانونًا منضبطًا ومجتمعًا بلا أخلاق أضمن لك عدم تطبيق القانون، وأعطنى قانونًا مهترئًا ومجتمعًا يقدر القيم أضمن لك عدم ارتكاب الجريمة”. وهنا للمصريين إضافة تستحق التأمل فى حقيقة هذا الشعب، والإضافة هى: “أضمن لك الخلود” نعم مع الأخلاق تبقى الأمم أو تزول دونها, ليس بالمال أو بالإمكانات، وليس بالمقدرات والمنجزات, بل بالإنسان وحسب، الذى من أجله خلق الله تعالى الدنيا وما عليها, ومن يرجع لمقولة ابن خلدون أنه لا جديد تحت الشمس, ومَن يتخذ من التاريخ مرجعًا تأتيه الحقيقة طائعة دون عناء البحث بأن الممالك العظيمة كالرومان والإغريق ومعاصريهم الفرس ممن ملكوا أركان العالم؛ قد غارت ممالكهم وانزوت نيرانهم وخزلتهم آلهة مجلس أوليمبيا, ومن بعدهم الأسبان والبرتغال مكتشفو نصف العالم, ثم المملكة التى لم تغب عنها الشمس، وإن كان هذا الاصطلاح لازم الخلفاء العباسيين والإمبراطورية العثمانية؛ فإن آلة الإعلام كانت تطوعه لصالح المملكة المتحدة (وحسب) وعلى العموم, وحليفتها فى اتفاق سايكس بيكو, ونظيرتها فى العداء التاريخى -كما فى حرب السبعين- فكانت الإمبراطورية الفرنسية التى تغيرت إلى الجمهوريات المتتالية الأولى والثانية و…, وسطعت دول أخرى كأمريكا المتألفة من متناقضات تضمن فناء وتشتت ولاياتها ذات المئتين عام فقط, وروسيا التى كانت إتحادا لخمسة عشر جمهورية من 1917 حتى 1990 وإنهارت مع إصلاح البريسترويكا, وتكتلت أوروبا من جديد فى عملة اليورو وسوق أوروبية, ربما يصونا – مؤقتًا- بقاءها, وتكتلت روسيا مع عدد من دول الإرث السوفيتى مغبة الفناء, والكل يعلم أن الأمر إلى زوال، فلم تذكر النصوص المقدسة الثلاث غير مفردة سياسية واحدة (فقط)، وهى مصر الدولة والأرض, ولم يبارك الرسل إلا شعب مصر-المصريين-، ما بين مبارك شعب مصر إلى هم خير أجناد الأرض, وتشى الحجارة بقيم المصريين, ويُنصف المستشرقون أهلها بأنهم أول مَن وحدوا الإله, وأول مَن صاغوا نسقًا أخلاقيًّا, وأول مَن زرع وحصد, ويحقد الآخرون حسدًا من عند أنفسهم على المصريين مدعين بهتانًا بأنهم مختارون أو مفضلون, ومثلهم فى ضلالهم غيرهم ممن يملك الثروات و…, والحقيقة أن المادة إلى زوال مهما عظمت ومكثت فى الأرض, أما القيم خالدة ومتوارثة من جيل إلى آخر, سرمدية الوجود رغم الظروف أيًّا كانت, وأهل الصوفية يدعون الله ألا يكونوا عبيد اختبار, والحكماء يقولون بأن الاختبار هو الذى يمحص الحسن من الخبيث, والثمين من الغث, ولا أقوى من اختبار العوز والاحتياج، بخاصة فى أوضاع يعلمها القاصى والدانى وصنعها العدو والصديق, وعلى الرغم ينجح الشاب بسيط الحال كمعظم بنى جيله, لكنه عظيم الشأن هو فرد أمن بمستشفى براتب هو حد الكفاف وأخلاق تكفى لبقاء أمة خالدة هو محمد جمال فرغلى لم تسنح له الفرصة ليحارب فى سيناء ويسجل اسمه مع الشهداء، وتضرب له الموسيقى سلام الشهيد, بل حارب عندما فرض عليه العوز حربًا ضارية لا هوادة فيها، فيلقى إليه الفقر بحقيبة مليئة بالأموال كانت مئة ألف جنيه تعادل أجره فى مئة شهر، تكفى وتزيد لزواجه وتأسيس مسكن ندر توفيره لمثله -فى زمان سابق- وربما مشروعًا يضمن استقرارًا لحين, ويهزم محمد جمال فرغلى فقره وعوزه وينتصر بخلقه وقيمه تلك التى يحسدوننا عليها ويحاربوننا لمحوها, ويقرر أن يرد الأمانات الى أهلها، وإذا بأهلها هم أيضًا يحاربون المرض، وقد جمعوا طاقاتهم وحولوها لمئة ألف جنيه مقابلًا لإجراء عملية لعزيزهم، وأمام فرحة عودة الأمل فى الشفاء عرضوا نصيب العُشر للمقاتل محمد جمال فرغلى، الذى انتصر ثانية على عوزه، عندما ناوره وجاءه ملتفًا فى عرض أهل المريض, فانتصر ورفض حتى النصيب المشروع متبرعًا به لإتمام العلاج, أية معركة تلك التى قال فيها الإمام على كرم الله وجهه: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”. ها هو بطلنا محمد جمال فرغلى يقتل الفقر وينتصر بأخلاق المصريين، وينجح فى اختبار يأتى مرة واحدة.
والنجاح الثانى لزميله فى الوطن الملازم تحت الاختبار محمد أشرف، الذى لم يمر على تخرجه فى الكلية الحربية أكثر من ثلاثين يومًا، وأمامه عام كامل على الأقل لينهى فترة اختباره, إنما ما هو الاختبار لمقاتل أقسم أن يموت فداءً لوطن ربما لم يسمح له عمره الصغير بأن يعرف من أهل هذا الوطن أكثر من عشرات المواطنين من بين مئة مليون مواطن, من عَلَّم هذا البطل أن يموت؟, مَن أورثه قيمة الفداء والتضحية بسنوات عمر قلائل ما زال القادم منها أضعاف ما فات منها؟, مَن وهب الفتى حقيقة الخلود؟ ليكون أصغر شهيد من الضباط إن كان عمره العسكرى لم يتجاوز شهرًا واحدًا.
يعى المصريون بإدراكهم العميق والثرى والممتد لآلاف السنين فى أصل التاريخ ومنذ بدايته, هم يعون المكائد التى تحاك فى الظلام لهم من ذئاب تتقطر من أنيابهم نيران الحقد كبركان تثور دواخله، فيقذف حمم اللافا لتقتل الأخضر، وينفث دخانه الأسود ليظلم سحائب النور, فمارس المصريون أجمل شعائرهم على الإطلاق، وهى الاصطفاف صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص، مؤمنين بقوة وحدتهم خلف رجل جعل كل المصريين أبناءً لأمهات الشهداء وآباءً لأبنائهم وأخوة وسند لزوجاتهم, وجعل المصريون يتعودون على ممارسة حقوقهم فى العلاج والسكن والتنقل والتعبد وغيرها من حقوق كانت مطموسة أو معطلة أو ممنوعة, فقاتل المصريون بأخلاقهم ومبادئهم ووحدتهم العوز والفقر والموت، وانتصروا عليهم فى معركة الوجود, وهذا ما يحاربوننا عليه “القيم والأخلاق والمبادئ”، وهذا ما يضمن بقاء مصر والمصريين وخلودهما, موتوا غيظًا؛ فصغارنا أبطال يصنعون لنا المستقبل, والله مولانا ولا مولى لكم.
وفى القادم إن شاء الله أحاديث عن مصر الجديدة والمصرى الجديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.