” أوتارٌ لا تعزفُ ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

لا يكادُ باسمٌ يصدقُ نفسَهُ ، أخيرًا تخطو قدماه داخلَ شقتِهِ بعد يومِ عملٍ كأنَّهُ سنةٌ كامِلٌةٌ وجهدٍ شاقٍّ كأنَّهُ جبلٌ شاهقٌ ألقاهُ من فوقِ كتِفَيهِ حين أنقذهُ صوتُ زميلِهِ طارقٍ مبشرًا بالانصرافِِ ، العينانِ شاردتانِ ، العقلُ سارحٌ في تلك المشكلةِ التي حدثت مع أحدِ عملاءِ المؤسسةِ الذي أهانَ العاملين بألفاظٍ نابيةٍ وتهديداتٍ صريحةٍ دون ردٍّ ولا موقفٍ حازمٍ من كبارِ المسئولينَ ، الإحباطُ ينطقُ من عينيهِ ويتجسدُ في كلِّ شيئٍ تبصرانهِ ، ملامحُ الوجهِ تفصِحُ عن أحداثٍ دراميةٍ لم يكن يتخيلُها ، كيف ؟ ولماذا ؟ وماذا بعد ؟

تلك كانت أسئلةً تتدفقُ من عقلِهِ كتدفقِ السيلِ الجارفِ دون سدٍّ يمنعُها ، ورغم كل ذلك يحاولُ أنْ يبدوَ طبيعيًّا بابتسامةٍ مصطنعةٍ يقابلُ بها زوجتَهُ وأولادَهُ حتى يمنعَ الأسئلةَ المتوقعةَ التي لا طاقةَ لهُ في الردِّ عليها .

يتحسسُ الخُطَى راجيًا أنْ يطيرَ نحوهُ أحدُ مقاعدِ الصالونِ ، يُلقي بجسدِهِ الواهنِ كطفلٍ بدأ الوقوفَ على قدميه لأولِ مرةٍ ثم وقع أرضًا ، لا يقوى على تغييرِ ملابسِهِ ، تمر زوجتُهُ أمامَ عينيهِ كطيفٍ باهتِ الملامحِ ،

يتبادلُ أولادُهُ حديثًا يصلُ لأذنيهِ مشوشًا ، تمر الدقائقُ دون انتباهٍ ، فقط يسألُ عن أخبارِهم ثم يصمتُ بعد الاطمئنانِ ، كيف أصبحتْ الحياةُ كالحيوانِ المفترسِ؟

سؤالٌ يتجددُ في عقلِهِ من حينٍ لآخر دون وجودِ إجابةٍ تشفي آلامَهُ الظاهرةَ والخفيةَ ، ينتشي قليلًا بعضَ اللحظاتِ حين يدركُ أنَّ اليومَ القادمَ عطلةٌ رسميةٌ لكنَّ عقلَهُ يقتلُ نشوتَهُ العابرةَ حينَ يقفزُ لما بعد العطلةِ .

ينتبهُ بشدةٍ على صوتِ زوجتِه كالصاعقةِ : لماذا تجلسُ صامِتًا ؟ ولماذا نسيتَ أنَّ اليومَ عيدُ ميلادِ ابنتِكَ ؟ وهل ستظلُّ بملابسِكَ الرسميةِ هكذا ؟ ترسلُ عيناه نظراتٍ معبرةٍ عن خيبةِ أملِهِ ، ما هذا العقلُ الذي لا يدركُ الوقتَ المناسبَ للعتابِ ؟ وهل هذه الأمورُ تستحقُ العتابَ أصلًا ؟ وما هذا القلبُ الذي لا يشعرُ بآلامِ شريكِ حياتِهِ ؟

ألا تدركُ أنَّ الرجلَ مثلُ الطفلِ يحتاجُ من يحنو عليه ويخففُ معاناتِهِ ؟ ألم تتعلمْ طوالَ دراستِها بعضَ الكلماتِ الرومانسيةِ التي تلامسُ العاطفةَ فتصنعُ السعادةَ ؟ ألم تستفدْ من النصائحِ طوالَ هذه السنواتِ ؟

تنصرفُ من أمامِهِ بعد ردٍّ مختصرٍ بصوتٍ منخفضٍ يُبدي خلالهُ اعتذارَه تجنبًا لطولِ الحوارِ لكنْ تظلُّ سهامُ نظراتِهِ تلاحقُها وكأنَّها تقولُ : كم لديكِ من مفاتنِ الأنوثةِ التي لا تجيدين استغلالَها !

لحظاتٌ تتلوها لحظاتٌ ، يحاولُ الهدوءُ اكتشافَ معالمِ البيتِ كزائرٍ لمدينةٍ غريبةٍ ، بعضُ الكلماتِ الحبيسةِ تحاولُ الخروجَ فيعيدُها باسمٌ إلى عقلِهِ حتى ترتديَ ثيابًا أشدَّ جمالًا ، ثم تكررُ المحاولةَ فيعيدُها مرةً أخرى ثم يقررُ مواصلةَ حبسِها ، تتجِهُ عيناهُ نحو مكتبتِهِ المضيئةِ بكلِّ أنواعِ المؤلفاتِ ، آلافُ الأصدقاءِ ينادونهُ بصوتٍ مرهفٍ ، فهذا عنوانُ الحكمةِ ، وهذا عنوانُ الجمالِ ، وذاك عنوانُ الدواءِ السليمِ ،

يبتسمُ لأصدقائهِ شاكرًا وقوفَهم بجوارِهِ عبر سنواتِهِ وخاصةً في أوقاتِ القلقِ والتوترِ التي أصبحت سمةً مميزةً لحياتِهِ ، تعودُ نبضاتُ القلبِ إلى معدلِها الطبيعيِّ على حذرٍ من قدومِ العاصفةِ التاليةِ .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.