محمد نبيل محمد يكتب : (الجيش المصرى تاريخ مجيد وحاضر يصون المستقبل) .. المدارس والمصانع العسكرية (1)

يموج الحال مكانًا وزمانًا بمتغيرات عاصفة لثوابت راكنة قدم الزمان، وتفرض كل الاحتمالات وجودها لتملى على قلم التاريخ محوًا للثابت وتثبيتًا للمتغير.
ولما كان مقتضى الحال يستوجب استدعاء قيمًا قد أهملها الحاضر ولاحت صفحاته لطيها.. تلك القيم الأصيلة وهذه المبادئ الحقيقية هى التى شكلت النسق الأخلاقى للحضارة الإنسانية، التى أشرقت مع شمس الدنيا من “مصر” كفجر للضمير الإنسانى، وتعاقبت حضارات الأمم تتوضأ من ضى هذا الفجر أخلاقًا وقيمًا ومبادئ لتتمسك بإنسانيتها.. إن ما نعيشه –مفروضًا علينا– يخالف ما اعتادت عليه الإنسانية، ويُغلب قانون الغاب، عودًا على ما كان قبل التأريخ الإنسانى.
ولأن الثقافة المكتوبة هى أول اختراح علمته الحضارة المصرية لغيرها من الحضارات؛ استوجب علينا اللجوء إلى الكتابة لاستدعاء انتصارات المصريين منذ التاريخ، تلك الانتصارات لم تكن طمعًا فى أراضى الغير أو جورًا على حقوقهم، إنما حفاظًا على الحق ودعمًا للعدل، هكذا –دائمًا– كان جيش المصريين ابن حضارة السبعة آلاف عام من الأخلاق.
.. الواقع –الآن– فى عوز لإعادة استدعاء قيم وأخلاق من أجل الحق والعدل للحفاظ على ما تبقى للإنسان من إنسانيته.
سننتقل عبر جولات جيشنا تاريخًا ومكانًا نخلق من تلك الحلقات المتوالية جسرًا موصولًا بين فرساننا على مدار التاريخ، وشبابنا الحالى ساعد هذه الأمة وعقلها وصانع مستقبلها, لتؤدى الصحافة أحد أدوارها كدرب ممهد يتنقل عبره القارئ ذهابًا وإيابًا لهؤلاء الفرسان يستمع إليهم، يسترشد منهم على ما اختلط عليه، يستقوى بفتوتهم التى ما زالت دافئة.. حية، على حاضره –المستعصى– حتى يلين! ليصنع الشباب بأيديهم نصرًا متواصلًا، ونستدعى النصر وروحه ليكونا حافزًا ومعينًا على حاضر لا تزال تفوح منه ريح الحرب إلى عبور قادم –لا محالة– لمصرنا الجديدة..
لن نهدف لسرد سير معارك هذا الجيش المجيد أو حكايات أبطالنا لتكون نوعًا من المراثى لهؤلاء الرجال، قدر ما تكون أسباب وصال واتصال واستمرار من الماضى الذى لن يزول نصره، إلى الواقع ليكون بمثابة عبور وانتقال قريبًا لمستقبل مصر.
ستنتصر فيه إرادة هذا الشعب المعجزة، وكما كان الدرس الأول “إن البلاغة هى مراعاة مقتضى الحال”، ومقتضى حالنا الآن يستوجب العمل لمستقبل هذا الوطن -الخالد– بروح وعزيمة وإصرار أجدادنا وآبائنا المقاتلين, وبقلم من رصاص!..
سنبدأ حلقات الفخار والمجد للعسكرية المصرية، التى نجد فى اختيار بدايات مصر الجديدة فى 1805 ما يتشابه إلى حد بعيد مع مصر الحاضرة الآن، بمعظم تفاصيلها والكثير من ملامحها، فنستعرض معًا بداية النهضة الاقتصادية التى لا محال كان العلم أساسًا لثوابتها وحتمية وجود جيش قوى ليكون الركيزة الفاعلة فى تطور مصر إلى المدنية الحديثة، حتى تلحق بركب الحضارة، ونبدأ بتكوين وتأسيس المصانع الحربية والمدارس العسكرية المتنوعة، وكلاهما سارا متوازيين مع إنشاء مدارس للعلوم المدنية، وأيضًا مصانع لاستكمال البناء الاقتصادى الشامل للدولة المصرية الناشئة, وأيضًا نتعرض لقوانين الخدمة العسكرية، ثم معارك الجيش المصرى فى فتح وضم الشام، والحجاز، وأعالى النيل، والسيطرة على البحرين الأبيض والأحمر، التوغل إلى القسطنطينية ثم القرم واليونان وجنوب أوربا، وصولًا إلى المكسيك وغيرها من المعارك التى بمقتضاها كادت مصر أن تسيطر على معظم أركان شمال أفريقيا حتى مديريات خط الاستواء وشبه الجزيرة العربية وبلدان الشام ومعظم جزر المتوسط وكامل الساحل الشرقى لأفريقيا على البحر الأحمر، إلى أن نتناول مسير الجيش المصرى فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم جولات الصراع العربى الإسرائيلى وصولًا لبطولات سيناء الدائرة رحاها الآن .
إنشاء المدارس والمصانع العسكرية لتأسيس جيش حديث وقوى
وجد محمد على بعد خلق النظام العسكرى الحديث فى مصر وتأسيس المدارس الحربية والمؤسسات الصناعية التى لا غنى عنها لجيش وطنى؛ أنه لا يزال فى حاجة ماسة إلى الأجانب الذين استقدمهم لمعاونته فى هذا الشأن، ولكن نفسه الطموح دفعته إلى التفكير فى تمصير التعليم فى الجيش المصرى، فعمل على إيفاد البعوث من الشبان الذين أهلتهم معاهد العلم فى مصر إلى أوربا ليتموا دراستهم بها، ويعودوا لتولى المراكز المهمة فى التعليم العسكرى.
رأى محمد على باشا أن ينظم التعليم العسكرى فى مصر؛ فأمر بتأليف مجلس يشرف على شئون التعليم والتدريب، وسماه (قومسيون المدارس العسكرية)، وكان يتألف من ناظر الجهادية رئيسًا وعضوية قادة الآلايات وغيرهم.
ووجه محمد على باشا نظره إلى ناحية الإعداد والتجهيز؛ فأنشأ مدرسة قصر العينى سنة 1825، وكان عدد تلاميذ هذه المدرسة يتراوح بين الخمسمئة والستمئة من أبناء الأتراك والمصريين، وتتفاوت أعمارهم بين الثانية عشر والسادسة عشر، وكانت هذه المدرسة تقوم بمرحلة التعليم الإعدادى، يتلقى فيها الطلبة اللغات العربية والتركية والإيطالية والرسم والحساب والهندسة، وبعد إتمام الدراسة فيها يوزع الخريجون على مختلف مدارس الجيش العالية التى سيأتى الحديث عنها، وقد توسع محمد على فى هذه المدارس، وزاد عدد طلابها لأجابة طالب الجيش حتى بلغ عدد تلاميذها فى عام 1834 ألف ومئتين.
علاوة على مدرسة أسوان الحربية السابق ذكرها؛ أنشأ محمد على فى عام 1832 فى الخانقاه هذه المدرسة، وذلك تبعًا لمقتضيات التوسع فى الجيش، وانتقلت بعد سنتين إلى دمياط، وكان عدد طلابها 400 من المصريين يمكثون فيها ثلاث سنوات، ويتعلمون فيها التمرينات والإدارة العسكرية واللغات العربية والتركية والفارسية والطبوغرافيا ورسم الخطط والأسلحة والشئون الإدارية والرسم والهندسة والرياضة البدنية، وقد عهد بإدارتها إلى الضابط (يولونينو) من ضباط نابليون، ثم تولى إدارتها بعده يوسف أغا.
أنشئت هذه المدرسة فى 15 أكتوبر 1825 للدراسات العليا بقرية جهاد آباد بقرب الخانقاه بمشورة عثمان نور الدين أفندى، وقام على تأسيسها الكابتن (جول بلانا) الفرنسى، وأقيم للمدرسة بناء جميل ومنازل على النمط الحديث، وكانت نواتها الأولى 18 ضابطًا، وكان بها بعض المدرسين الأجانب، وكانت مدة الدراسة ثلاث سنوات، ويعين خريجوها أركان حرب فى الوحدات الفنية فى الجيش.
تأسست عام 1831 مدرسة المدفعية بطره، وانتخب لها 300 من خريجى مدرسة قصر العينى التجهيزية لدراسة فن المدفعية والتدريب على مختلف أنواع مدافع الميدان والهاون، وكانت المواد التى تدرس فى المدرسة هى الرياضيات والكيمياء والرسم والاستحكامات ولغة أجنبية واللغة العربية والتركية، علاوة على فن المدفعية والمساحة.
وقد وزع خريجو هذه المدرسة على وحدات المدفعية بالجيش، وخصص بعضهم للعمل بمدفعية الأسطول.