“كريم أساس ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام
نظرت فى المرأة محدقة فى تفاصيل وجهها الذى تراه ، كل صباح تزداد التجاعيد واحدة ، العيون أصبحت أقل أتساعاً ، والرموش أقل كثافة ، والمسافة بين أنفها وفمها أتسعت عن ذى قبل ، وبرزت عظام وجهها وأختفت النضارة ، تعلمت أستعمال المساحيق بمهارة ، تضع فى البداية طبقة من كريم الأساس ، تخفى بها خطوط التجاعيد العميقة التى حفرت عبر زمن قصير ، تكتسب بشرتها لون أكثر بياضاً وأكثر نضارة ، تضع الرموش الإصطناعية الطويلة كنجمات التمثيل ، وتلون الشفاه باللون الأحمر الفاقع ، تكتسب شكلاً مثيراً ، تضع أظافر طويلة وتلبس حمالة صدر ضيقة فتبرز ثديها الى الامام ، ترتدى ( جيب ) أعلى قليلاً من الركبة بحيث يسمح بظهور اكبر قدر ممكن من الفخذين عند الجلوس ، الكعب العالى يعطى لحركة الجسد عند السير إثارة ، ثم تترك الشعر حراً طليقاً بعد البلل ، يكتسب قدراً من الالتواءات الجذابة ، تطمأن الى شكلها وتلقى نظرة اخيرة على نفسها كلما مرت على زجاج سيارة تحاذيها ، تركب الميكروباص ، يفسح السواق له مكاناً بجواره بالامام ، يتبدل سلوكه ، تلمع عيناه وهو يختلس النظر اليها فى جلستها المثيرة ، يقترب نحو وجهها هامساً نزلة فين ؟ تجيب فى أعتياد ، شارع ابو الفدا ، تفوح من فمه رائحة السجائر الرخيصة ومن جسده رائحة العرق ، تحتمل سخافته وطنين رغبته وتستعين بإبتسامة باهتة معتادة فى مثل هذة المواقف ، تهبط أمام الملهى الليلى ، مازال الليل فى بدايته ، لم تكتمل ظلمته اكتمالاً كاملاً ، لا تأتى الزبائن فى هذا الوقت المبكر من الليل . تستغل فسحة الوقت بسكب اكبر قدر من الكافيين فى جوفها ، وتدخين أكبر قدر من التبغ ، تنطوى فى مقعدها بجوار الشباك المطل على النيل ، تسرح فى ملكوت أخر ، تستغل الوقت بين حضورها وقدوم الزبائن بركوب عجلة الزمن نحو الماضى ، أكثر ما يداعب ذاكرتها رحلة الأقصر وأسوان مع الكلية ، لم تشعر بسعادة طوال عمرها مثل هذا الأسبوع التى قضته متنقلة بين المعابد والنيل والبر الغربى وسط غناء الطلبة والمرح البكر الذى لم تخالطه الألام ومحن الحياة ، اختارها زملاءها فى الحفل التنكري للقيام بدور الراقصة ، هل كانت نبؤة مبكرة ؟ ، تبتسم وتشعل سيجارة جديدة من القديمة وتتجرع المزيد من القهوة السادة ، منذ الحفل التنكري لم ترقص مرة أخرى الا فى حفل زفافها ، بعد ثلاث سنوات انجبت ثلاثه من الأبناء ، لم تنعم بالاستقرار طويلاّ ترك زوجها العمل بمصانع الحديد والصلب بعد بيعها ، لم تكف مكافأة نهاية الخدمة أكثر من عام ، لم تتوفر فرصة عمل جديدة له ، أطاحت أزمتهم المالية بالاستقرار ، وهبت العواصف على عش الزوجية وأصبح هشيماً تذروه الرياح ، ذات صباح وجدت نفسها وحيدة تعول أبنائها وحدها ، بعد التردد على العديد من المهن المهينة والعروض القذرة أستقر بها الحال نادلة بملهى ليلى تستقبل الزبائن والسياح العرب ، أتقنت لهجتهم الخشنة الصحراوية ، مع الوقت أكتسبت خبرة إخراج الدراهم والريالات من جيوبهم ، بحذر تقترب منهم ، تبتعد اذا لعبت الخمر برؤوسهم ، تحتفظ بمسافة آمنة ، تنتهز الفرصة حين يسمح الوقت ، تخرج الى حافة الملهى الليلى المطل على النيل ، تتنفس هواءها نقياً ، تملأ صدرها به قبل ان تعاود الرجوع الى الصالة ، سحائب الدخان المختلطة برائحة الخمر ، سببت لها حساسية الصدر ، تسعل بقوة بين حين وأخر ، يهتز جسدها كأنه يتهاوى ، تضع منديلاً على فمها وتهرع نحو حمام السيدات ، تطلق لصدرها العنان للسعال ، تسحب نفس عميق وتخرجه ببطئ ، وتخرج أقراص الكرتيزون تبتلعها على عجل ، وتقف تسند رأسها على الحائط ، يحيط بها مجموعة من النساء مشغولات بإعادة طلاء الوجوه بشتى الألوان ، تنظر اليهم بحسرة وتعاود الرجوع الى الصالة ، يولد نهاراً جديداً بالخارج ، تسحب الستائر الداكنة على نوافذ الصالة وتستمر السهرة ، فى السابعة صباحاً تنهى العمل ، تضع النضارة الشمسية السوداء على وجهها ، تحاول ان تعتدل فى خطوها المجهد ، يتابعها الشرطى السرى ، تعرفه جيداً ويعرفها ، تخرج بعض النقود من حقيبتها وتتعمد اسقاط بعضها ، ينحنى الشرطى يلتقط الأوراق المالية ويزيل عنها الأتربة ويضعها فى جيبه وهو يبتسم أبتسامة صفراء ، تطمأن حين يعرج الى شارع جانبى ويتخلى عن متابعتها ، تصل الى موقف الميكروباص، تنحشر وسط طلبة الصباح والعمال والنساء العاملات فى بيوت الأغنياء ، تتسلى بالإستماع إلى ثرثرتهم تجاذبهم أطراف الحديث عن الغلاء وبخل الأغنياء ، تضع وجهها فى النافذة تتابع من مقعدها حياة أخرى غير التى كانت تعيشها منذ قليل ، تتحسر فى صمت عند المقارنة ، تتسائل ما الذى يدفع هؤلاء الى هذه الحياة يومياً ؟ أبدان تتصادم وعيون تائهة وأجساد هزمها المرض والهزال ، يهرعون كل صباح يصارعون بعضهم البعض فى الشوارع الضيقة ووسائل المواصلات المزدحمة ، تحت حرارة الشمس الملتهبة ، من هؤلاء ؟ وكيف أتوا الى الدنيا ومتى وكيف يغادرون ؟ فى حادث سير ام فى مستشفى او بمرض خبيث ، كيف يمرحون ؟ ومتى يحزنون ؟ لا شئ المحه فى عيونهم الا سؤال واحد .. إلى متى ؟
تنتبه الى قرب وصولها ، تزعق على جنب يا اسطى ، ينحرف السائق فجأة ناحية الرصيف ، يميل كل الركاب بقوة الى نفس الناحية ، تسقط وهى تمر بين المقاعد على ساق أحدهم من أثر الحركة المفاجئة ، تنسلخ من وسطهم وتهبط الى الشارع كأنها خرجت من بطن أمها للتو ، ترتمي فى حضن السرير ، تشخص بعينيها فى سقف الحجرة ، تتأمل المصباح وبقعة الظلال حوله ، تغلق اجفانها للنصف ، تتسرب خيوط الضوء الى مركز البصر ، تتكون ألوان تشبه قوس قزح متداخلة بلورية وشفافة تغلق أجفانها اكثر واكثر تدخل الى ظلمة ما قبل النوم ، تداخل إيهامات الأحلام ، ثم تدخل فى ثبات عميق ، يراودها نفس الحلم ، تسير وسط حقول صفراء بلون الذهب ، حبات القمح منتفخة وكبيرة ، تميل الاغصان مع تيار الهواء ، تنحنى حتى تبدو انها مكسورة ، تتلمس بأناملها شواشى اعواد القمح ، تضع حبات منه فى كفها ، تهبط العصافير تنقر فى راحتيها ، تأكل بنهم تزقزق بصوت مرتفع وتتجمع ثم تطير فى اسراب ، ترتفع نحو السماء ، تكون سحابة غامقة بلون الريش القريب من لون طمى النيل ، تلمح على البعد جواداً أبيضاً يصهل ينادى عليها ، تذهب ، ينحنى لها تركب فوق ظهره ، يفرد جناحيه ويطير ، يحلق فوق الحقول الخضراء ، يطير بمحاذاة النيل ، يهبط بها عند الملهى الليلى بشارع ابو الفدا ، العرائس فى فساتين الزفاف والعرسان فى حُلَلْ زاهية بيضاء والجميع فى حالة بهجة ، يفسحوا لها الطريق ، تستقر فى نهاية الممر على عرش من نخيل ذهبى ، طلعه الياقوت ، تشرب من ابريق من فضة ماء سلسبيل حتى ترتوي ، تستيقظ على طعم الماء الفرات فى فمها ، تحاول ان تنام مرة اخرى لتستكمل حلمها الجميل ، تتقلب فى الفراش ، لا يعاودها النوم ، تبتلع قرص منوم يستعصى النوم ، تبلع قرصاً ثانياً .. ثالثاً … رابعاً … خامساً ، تغلق عيناها وتستكين دون حراك .. يخبو رويداً رويداً حلمها المستحيل ويحل مكانه الموت البطئ ثمناً غالياً فى مقابل حلم .. مجرد حلم بسيط .
روعاتك لا تنتهى وأسلوبك بياخدنى أعيش في نفس المكان وأشاهد الأحداث عن قرب وأبقى مش عايزة القصة تخلص دمتم بخير ودامت حكايتكم الممتعة