عندما نجد أن إحدى أبشع العقوبات فى الشرائع وفى القوانين الوضعية وفى الأعراف هى إبعاد الإنسان عن أرضه وقومه, فكانت بعد عقوبة الجلد لغير المحصن نفيه عن أرضه عامًا من الزمان, وكذلك عقوبة المفسد هى النفى من الأرض بعد عدد من العقوبات كما فى حد الحرابة, وكما فى فساد الأخلاق والتعدى على حرمات الآخرين جزاء الطرد؛ كذلك كانت عقوبة المفسدين للمجتمع وأمنه واستقراره هى النفى خارج الوطن, حتى إن العقوبات الوضعية كالحبس جراء ارتكاب الجرائم المختلفة القصد منها عزل الجانى عن مجتمعه وناسه وأهله, وسلب مظاهر التمتع بالمواطنة ومسالكها كافة, وفى ذلك أيضًا غربة ووحشة مقيتة للإنسان,
وتلك عقوبات قسرية جبرية، وأيضًا هناك عقوبات اختيارية يعاقب بها الإنسان ذاته كما فى حال استيلائه على المال العام -وعدم تمكن القضاء منه- أو نهبه لحقوق الغير فلا يسعه إلا أن يخرج من أرضه مغبة العقاب جراء شنيع أفعاله, وهناك مَن تضيق به السبل فى الرزق وكانت بدايةً قد ضاقت وانحسرت بصيرته فى إيجاد وخلق فرص قويمة وصحيحة فى اكتساب الأرزاق، وتفتقت بصيرته العمياء وقادته نفسه للهروب من أرضه إلى بحار المجهول، نافيًا ذاته اختياريًّا من وطنه وحياته ربما إلى الموت والفناء,
وهناك مَن يرسلون أجنتهم وهى ما زالت فى بطون أمهاتها لتخرج إلى أرض النفى والوطن البديل اختياريًّا, وهناك مَن يجبرون أنفسهم على اعتزال الناس والحياة خوفًا من مواجهة ظروفهم وهربًا من تحمل المسؤولية -أيًّا كانت- وتلك فى أحوالها جميعها عزلة ونفى وطرد واغتراب للإنسان عن وطنه وأهله, سواء أكان قسرا نتيجة ارتكاب المعاصى والجرائم, أم اختيارًا بسبب ضيق الأفق وعمى البصيرة وقلة الحيلة وعلل نفسية, نهاية اتفقت الأدبيات الإنسانية نفسية واجتماعية بل وسياسية وتربوية على أن الاغتراب والعزل والنفى من المفردات التى تطيش بالأمل وتنحر الطموح،
وهى من أدوات بقاء الإنسان وسعيه لخلوده, لذا خطط الحاقدون لتحقيق هدف استراتيجى رئيس فى اغتراب المواطن داخل وطنه وبين أهله وقومه أو خارجه, وذلك من خلال آليات الإعلام الفاسد والدراما الخبيثة والكتابات السوداء والآراء الظلامية, بهدف انتشار الفساد وعموم المحسوبية وشيوع الرشوى وسيادة البلطجة وسواد الجهل, وغيرها من الأهداف التكتيكية التى تحقق انتصارات متتالية ومتوازية على النسق القيمى والسياق الأخلاقى والضمير العام والوعى الجمعى,
سعيًا لتحقيق هدف استراتيجى تالٍ وهو تشويه الشخصية الوطنية وهدم ثوابتها وحلحلة ركائزها, ليسهل انقيادها
تجاه العدمية إما بالاغتراب الداخلى أو الخارجى, وبهذا تتحقق الأهداف العظمى من احتلال العقول وامتلاك الوجدان
ووطء النفوس؛ فلا يتبقى إلا جسد فارغ أجوف لين وطائع يوجهه مَن يريد كيفما يريد!.
الجمهورية الجديدة تقتضى وجود إنسان جديد، لا القصد هنا إنسان ليس من غير هذه الأرض، لكن مقتضى الحال
يستوجب علينا جميعًا أن ننتفض فى مواجهة المستورد من الثقافات الهدامة للإنسان ونفسيته وعقله, وضد الثقافات
الناسفة للمجتمع وتماسكه, لا هى دعوة للتقوقع والانحسار عن المد الحضارى بإيجابياته، لكنها وقفة لكل منا أمام
ضميره أولًا يسأله: “هل ما أنا عليه هو الصواب دينيًّا وأخلاقيًّا تجاه نفسى وتجاه أبنائى وتجاه وطنى؟” أو بسؤال آخر:
“هل أنا شريك فى بناء وطنى ومستقبل أولادى أم أنا شريك فى هدم كل ذلك؟”
إن الإجابة ليست بمعضلة على أي منا, فما أسهل من أن يصدق الإنسان مع ذاته, وما أقسى من أن يكذب الإنسان
على نفسه! لأنه هنا سيكون إما إنسانًا موجودًا يسعى لإنسانيته التى خلقه الله عليها ويملك زمام أمره فى حاضره
ومستقبله, أو أن يجعل من نفسه كائنًا غير الإنسان يرضى لغيره أن يحدد حاضره ومصائره، ويجعل منه غائبًا مغتربًا
عن ذاته وناسه ووطنه.
نعلم أو لا نريد أن نعلم, أن الاغتراب والنفى والهجر والعزل والطرد للنفس كما هو للجسد, وندرك تمام الإدراك أن
المستهدفين من الاغتراب هم أبناؤنا، بهدف إبعادهم عن أرضهم وتشتيت مستقبلهم,
فماذا قدمنا نحن الآباء دفاعًا عن أبنائنا؟, كما فعل الآباء الأقدمون لنا فى ترك إرث من التراب الوطنى الحر والهوية
الوطنية الخالصة.
ومعلوم -أيضًا- أن الاغتراب يقود إلى عزل الإنسان عن أسلحته القيمية ودفاعاته الأخلاقية؛ فيكون طيعًا فريسةً لفرض
أخلاق الآخرين والتأسى بها، ويستيقظ الآباء على هجوم آخر على مستقبل أبنائهم، وهو المرحلة الثانية من
استهداف الشباب بعد الاغتراب، كأن يجد الآباء مسالك الشذوذ متاحة ومباحة لدى أبنائهم, فما بعد الاغتراب عن
أخلاقنا ومبادئنا إلا الشذوذ!
ونستكمل فى القادم إن شاء الله عن معارك (الشذوذ) ونتحدث عن الذات القويمة والذات الشاذة, ولنبنى أركانًا
جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وإدراكه لإمكاناته فى التغيير, وعلى الإنسان أن يُعيد تقييم ذاته ليرسم
بيده ملامحه ليست الشكلية فحسب، وإنما الباطنة أيضًا, ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل، وليس الشبه