محمد نبيل محمد يكتب : الأمن الثقافى والهوية الثقافية ..ثقافة الدعاية ودعاية الثقافة (2-3)

نستكمل مفهوم ثقافة الدعاية وتطوره سلما وحربا حتى استخدمه جوزيف جوبلز وزير الدعاية لهتلر، إلى ان تطورت آليات القتال والحرب الدعائية لتستغنى بشكل نهائى عن دور المساعد فى العمل العسكرى العدائى وتتحول لحرب رئيسية تستهدف السيطرة على الشعوب العادية او المستهدفة من خلال الدعاية الهجومية التى تحدث عنها هربرت شيلر فى كتابيه “المتلاعبون بالعقول” و” الهيمنة الثقافية” فى مطلع الستينيات من القرن الفائت.
وظلت الأبحاث الميدانية تطبق وتجرب على الشعوب المفعول بها حتى تطورت الدعاية إلى المدى الذى جعل من يمتلك اسبابها فى مصاف الدول العظمى الحاكمة فى الفعل العالمى، وتحولت الدعاية من اتجاهاتها السلمية التى بدأت منها إلى الأغراض الاستعمارية ـ وان كنت ارفض هذا الاصطلاح المخالف لحقيقة الاحتلال فهم لم يعمروا بل استنزفوا القدرات وقتلوا الانسانية ـ وظهرت نظريات جوزيف ناى المساعد الاول للرئيس بل كلينتون ومستشاره الأمنى والذى قدم كتابه “القوة الناعمة ـ وسيلة النجاح فى السياسة الدولية” ثم مؤلفه ” القوة الذكية” الذى يتحدث بضرورة وجود تكامل بين قوى الدولة الى جوار القوة العسكرية، وتلاه بول كينيدى فى مؤلفه “صعود وسقوط القوى العظمى” الذى أجرى دراسة زمانية لخمسة عقود منذ 1500 وحتى 2000 ميلادية عن الدول الكبرى كالصين واليابان والاتحاد السوفيتى والاسبان والبرتغال وبريطانيا وفرنسا ثم السوق الاوربية والولايات المتحدة واثرالقوة الاقتصادية والعسكرية فى الاستمرار أو الانهيار، وترجم الكتاب الى (23) لغة وبيعت منه (مليون) نسخة منذ صدوره فى 1987
وربما كان الظهور الأعظم للدعاية الهجومية خلال حرب الخليج الثانية ، فكانت الاولى بين العراق وايران وظلت قرابة العقد الكامل، من اغسطس 1980 وحتى سبتمر 1988، وأطلق عليها العراق أسما دعائيا “قادسية صدام” بينما الاسم الدعائى الفارسى فكان “الدفاع المقدس” ولم ينتصر أيا من الطرفين بل خارت قواهما تمهيدا لاحداث فراغ استراتيجى فى المنطقة(!).
أما الثانية فكانت عربية ـ عربية بين العراق والكويت فى يوليو 1990، وكلا الحربين كانتا نتيجة منطقية للاستجابة لدعايات العدو الأكبر فى احداث الوقيعة العربية الفارسية أو السنية ـ الشيعية، ثم الإعتداء الأخوى العربى ـ العربى، لانهاك القوة العسكرية لكافة الأطراف التى تسلحت حتى شارفت أن تكون فى مصاف الدول العظمى، من جانب ومن آخر لاستنزاف ثروات العرب البترولية وتوجيهها للاستجابة للدعايات الغربية فى اقتناء السلاح الغربى بل وانشاء القواعد العسكرية الغربية لحماية المقدرات والدفاع الغربى عن الأخوة فيما بينهم، وكانت تلك أعظم نتائج الدعايات.
الى أن تطورت الدعاية الى الترويج للأفكار التى تهزم الجيوش وتستعبد الشعوب دون تذخير البارود، وذلك من خلال طمس الهوية الثقافية الوطنية وزلزلة ثوابتها العقائدية وتشويه أنساقها الأخلاقية، وإبدال منظومة القيم، وضياع جملة المبادىء الانسانية، وتأتى هذا من خلال نشر واتاحة آليات الاجتياح المستمدة قوتها من أجيال عصر المعلومات وثورة الرقمنة وطوفان الذكاء الاصطناعى، فتحققت السيطرة الفردية والجماعية فى آن واحد على أفراد الشعوب ومجاميعها من خلال وسائل الاتصال المحمولة “الذكية” التى تكشف ادق الخصوصيات عن مستخدميها حتى تعطى الآخر مفاتيح الحركة والثبات فى الشخصية الفردية والجمعية بل والقدرة على تحقيق هجوم يحدث تغيرا ثقافيا ثم اجتماعيا ثم اقتصاديا وينتهى بتغيرات جيوسياسية من الممكن أن تعدل الحدود السياسية للدول وكذلك تمزق الوحدة المجتمعية للشعوب وتفرق عقائديا وعرقيا وتكون من الشعوب أنفسها ميليشيات عسكرية تعتنق أفكارا تهدم وحدة دولتها وتمزق نسيج مجتمعها وتكفر بعضها البعض وتستبيح حرمة الدم والملكيات، بل تجاوزت كل ذلك بأن عادت لبدايات مجتمع الغاب وشرّعت أسر الأطفال وسبى النساء واهداءهم فيما بينهم لبعضهم البعض (!) وكل هذه الدعاية العدائية تجاه مجتع مستهدف تتم من خلال هذه الميليشيات التى تكونت من أبناء الأرض ضد أهلها و أرضها بما يسمى باصطلاح “حرب بالوكالة”.