” جريمة قتل ” .. قصة قصيرة للإعلامي محمود عبد السلام 

الإعلامي محمود عبد السلام

أطفأ نور الحجرة ، وأضاء مصباح خافت بدد به الظلام ، الذى أرخى ستائره على كل شئ حوله ، ودخل الى فراشه متدثراً بغطاء ثقيل ، ومتخففاً من ملابسه الشتوية الثقيلة

دقائق قليلة وتعلن الشمس بدء نهار جديد، لم يحب يوماً سطوع الشمس ، أحب ان تكون دائماً فى المنتصف ، بين الظل والنور ،

كان يقول لنفسه دائماً ، ان هذا الضوء شديد السطوع يكشف ما ستره الليل من أفكار واحلام وهواجس ، ويظهر تجاعيد الوجوه ، والندبات التى خلفتها الايام ، الظل هو الرحمة ، حين يأوب المتعب والمجهد اليه ، لو ان الظل يكسى بروعته الكون ، لكان للعالم شأن اخر ، عندما احب وقف فى منطقة الظل لم يعلن عن حبه ، ووقف فى المنتصف بين الحلم وتحقيقه ، وأكتفى بتبادل النظرات ، لم ير حبه النور ، حرص ان تستمر المشاعر حية فى قلبه حتى لا تفقد دفئها حين تنزل الى ارض الواقع ، وقال .. الخيال اجمل بكثير .. ثم لملم نفسه وأبتعد ،

لم يرهق نفسه فى العمل ، يكفيه من النجاح مرتب اخر الشهر ، بعض الاف من الجنيهات كافية ، لتحقيق احتياجاته ، ليس بالضرورة ان يحقق كل احلامه ، قليل من الطعام يكفى ، وابسط الملابس تستره ، ليس طلباً ملحاً السفر او قضاء بعض الوقت فى اماكن فاخرة ، يكفيه ان يجلس على القهوة اذا ألحت عليه فكرة التغير ، كان يقول ما اجمل المسافات وما اجمل ان تقف دائماً كمؤشر الميزان فى المنتصف ،

شهور قليلة وسيبلغ الخمسين ، انه منتصف العمر ، ما اجملها لحظة ، الان يرى ماهو على يمينه او شماله وفوقه وتحته بوضوح تام ، لا يريد ان يميل نحو اى اتجاه قيد انمله ، الأن جاءت لحظة الاستمتاع بدفئ المنتصف ،

فى هذه الليله قبل بزوغ الفجر وقبل ان يسطع ضوء النهار اتخذ القرار ، قال لنفسه … انا على افضل تقدير اذا تم الوضع فى الحسبان حالتى الصحية بما فيها من امراض مزمنة ، وبحساب العد التنازلى لوظائف الاعضاء وما بدى على شعرى من بياض ، نقول على احسن تقدير اننى قبل ان اكمل عامى الخامس والستون اكون قد رحلت ، صحيح ان الأعمار بيد الله ، لكن دعنا نكون مدركين للحقائق ،خمسة عشر سنة قادمة نحتاج فيها ثلاث وجبات يومياً ، وحتى لا يفسد الطعام سأعتمد على المعلبات ، والمياه متوفرة وممكن ان أخزن بعضها بين وقت وآخر تحسباً لو انقطعت ، ثم أبتاع بعض نباتات الظل والعصافير ، وسأضع شفاطاً لطرد الهواء واخر لتجديد الهواء ، ثم أغلق كل النوافذ من الداخل بألواح الخشب والمسامير ، واتحكم فى ضوء الشمس من خلال الستائر ، وسأكتب على الشقة من الخارج ( نأسف لعدم الأزعاج ) ، اما الفواتير سأسددها عن طريق الموبايل وشبكة الأنترنت ، وتكون هذه الحجرة هى حجرة الخزين ،

الآن أستطيع ان اقول وداعاً لحياة المنتصف فقد اخترت ، أمتلأت الحجرة عن أخرها بالمعلبات وكل ما يمكن تخزينه دون ان يتلف ، مراعياً تواريخ الإنتاج ،
مضى اول عام والحياة تسير سيرها الطبيعى المنتظم فى كل صباح ، يفتح شفاط طرد الهواء وشفاط جلب الهواء ، ويجلس يستنشق الهواء الجديد على مقعد وضعه بين نباتات الزينة واقفاص العصافير ، ويفتح لضوء الشمس فرجه صغيرة يمر منها ، لتكون الحجرة بين الظل والضوء ، يستمتع بصوت العصافير ومنظر النبات ويستنشق الهواء الجديد ، وفى المساء يتابع نجوم السماء من خلال تلسكوب وضعه خلف زجاج نافذة مطلة على فراغ ، ثم يتناول عشاء خفيف ويخلد الى النوم ، كان مرتاح البال بعد ان سوى معاشه لا عمل ، لا احتكاك بفوضى الشارع ، ولا بشر مزعجون ،

هكذا توالت الايام يستمتع بالهدوء وراحة البال ، حتى جاءه هذا الزائر الغريب ، كيف تسلل الى داخل الشقة وكل المنافذ مغلقة ، احس بحركة غير طبيعية تناهت اصواتها الى سمعه ، جاءت من ناحية حجرة الخزين ، بهدوء مشى على أطراف أصابعه ، والهواجس تلعب بأفكاره ، قد يكون لصاً دخل الى المنزل ليسرق الطعام ،

لكن متى حدث ومن اين دخل وكل المنافذ مغلقة ، أَيكون شبح يسكن المكان ويخرج ليعبث فى الشقة حين يعم الظلام ، أى أن كان يجب المواجهه ، وصل الى باب الحجرة واخذ ينصت للصوت القادم من خلف الباب ، كانت الحركة بالداخل مستمرة ، وضع يده على ( أكرة ) الباب ثم اخذ نفساً عميقاً وبسرعة خاطفة ، فتح الباب وبحركة سريعة أضاء النور ، فوقع بصره على فأر كبير يقف فى منتصف الحجرة تماماً فوق كومة من المعلبات ، أذهلت المفاجأة الاثنين ، وظلا يتبادلان النظرات ، وكلاً منهما متوجس من الأخر ، من يبادر بأول رد فعل ، تراجع خطوة الى الوراء واستند الى الباب بهدوء ، وهو يخلع نعله ليضرب به الفأر ، لكن قبل ان يطوح يده فى الهواء ويقذف الفأر ، اندفع الفأر بسرعة خاطفة ماراً بين قدميه نحو الشقة بالداخل ، استدار سريعاً يلاحقه ، فى مطاردة بين أركان الشقة ، قفز أولاً خلف الستائر ، ثم توجه نحو نباتات الزينة ، فلاحقه الى هناك فخرج مسرعاً نحو المطبخ ودخل خلف الثلاجة ، كان التعب اخذ منه ، وتحول الهدوء الذى كان يعيش فيه الى فوضى وإزعاج ، اصر على قتل الفأر حتى يعود اليه الهدوء الذى أعتاده منذ أكثر من عام ، ثم طاف بخياله لحظة انفصاله عن العالم وتوحده مع ذاته ، وكم من مجهود قام به لينال مراده باعتزال الحياة ، وقف شاهراً نعله مشرعاً فى الهواء منتظراً خروج الفأر من خلف الثلاجة ليعاجله بضربة خاطفة ويتخلص منه للأبد ، ويعود الى وحدته وسيرته الاولى ينعم بالهدوء ، لكن الفأر لم يخرج وظل ساكناً بلا حركة ، حتى تعبت يده فأنزلها وارتخى جسده قليلاً وأرتكن الى الحائط ، وهو متحفز ،

استمر الوضع هكذا حتى أصابه الملل وفقد الرغبة الجامحة فى قتل الفأر ، أكتفى بغلق باب المطبخ بأحكام ودخل الى حجرته واغلق بابها عليه ، فى الصباح مشى على أطراف أصابع قدميه وقف يتنصت بحرص خلف باب المطبخ ، لكنه لم يستمع الى اى شئ ، فتح الباب لم يجد اى أثر للفأر ، جهز الفطار واخد الصينية ودخل يجلس بين نباتات الزينة ويستمتع بصوت العصافير ، وبينما هو جالس يتناول طعامه فجأة ألتفت وجد الفأر واقف فى منتصف الحجرة على قدميه الخلفيتين ، ورافع قدماه الأماميتان ، وقبل ان يهجم عليه ، لفت نظره الوضع الذى اتخذه الفأر ، شعر كأنه يترجاه ، فكر قليلاً ثم مد يده الى طبق الجبن واخذ قطعة ووضعها امام الفأر ، هرب الفأر سريعاً فزعاً من الحركة المفاجئة ، فاستدار يركض هرباً ، لكنه لم يلحظ وقع أقدام تتابعه ، هدأت أنفاسه ووقف ونظر خلفه ، وجد الرجل فى مكانه لم يتحرك ، وقطعة الجبن فى مكانها كما هى ، تشجع وعاد الفأر بحذر نحو قطعة الجبن يتقدم ويتأخر فى مكر حتى يتأكد انه لن يصاب بأذى من ضربة حذاء او عصا غاشمة ، حتى أستقر له الأمر تماماً فتقدم ببطئ ثم فى لمح البصر خطف قطعة الجبن وركض خلف الستائر ،

فى صباح اليوم التالى ، ظهر على إستحياء ، دار دورة فى فراغ الحجرة لكنه لم يجد صاحبه ، كان الفأر يتضور جوعاً ، فكر يذهب الى الخارج لعله يجد حل لوجبة الافطار ، فى احد مطابخ الجيران مفتوحة الشبابيك ، وعندما هم بالبحث عن مخرج وجد امامه صاحبه عائداً من المطبخ يحمل اطباق الافطار ورائحة الطعام شهية ، تراجع الى الخلف فى حذر وهو ينظر الى الاطباق فى اشتهاء ، فجأة القى صاحبه له قطعة اخرى من الجبن ، قفز اليها مسرعاً وامسك بها بفرحة ، لم يساوره الشك فى نية صاحبه ، تقدم هذه المرة بشجاعة ووقف يأكل وهو ينظر اليه بامتنان وكلما فرغ من قطعة القى له قطعة اخرى ، حتى احس بشبع لم يشعر به من قبل حتى ايام ماكان يعيث فساداً فى مصانع الجُبْن ، اكل حتى عف الطعام ، وشعر بجسده ثقيلاً ، فاستدار ببطئ وتوجه نحو الستارة ووقف بينها وبين النافذة ، واحس برأسه ثقيل وأستسلم للنوم اللذيذ ، أستيقظ ومازالت احلامه تداعبه ، راى فى نومه انه وصاحبه يسيران فى طريق على حافتيه كل انواع الطعام الشهى ، وكان صاحبه يحمله فوق كتفه ، يدفع عنه القطط التى تموء تروم افتراسه ، عندما اكتمل استيقاظه وجد صاحبه واقف امامه منحنياً نحوه يحمل فى يده حبلاً ملوناً بالوان زاهيه ، برفق حاول وضع الحبل حول رقبته ، تردد فى البداية ، وتذكر اول لقاء بينهما وهو يحاول قتله ثم تذكر ان العلاقة بينهم تغيرت حين وضع له الطعام ، ولماذا يخاف منه وهو الذى اذا اراد قتله لانتهز فرصة نومه واجهز عليه .
استسلم ومد له رأسه فوضع الحبل حول رقبته بهدوء حتى احكم الحبل ، ثم مد يده واخذ يحنو عليه ومرر يده على بقية جسده ، ثم جذبه برفق من طرف الحبل ، فسار خلفه فى خضوع ، عبر به الحجرة ثم الصالة حتى وصل الى المطبخ ، اشتم رائحة شهية ، فوقف على قدميه واخذ يحرك انفه فى جميع الاتجاهات يشتم رائحة الطعام الشهية ، لاحظ صاحبه ذلك ، فرفعه من على الارض ووضعه جنبه على منضدة المطبخ وهو ينظر اليه ويبتسم ، أبتسم وقال لنفسه ، انه فأر صحيح ، لكن ماذا يمنع ان يصير صديقاً لى ، كم من مرة صادقت بشر لكنى اكتشف عدم صدق مشاعرهم نحوى ، حتى الزواج لم أكن موفقاً فيه ، بعد فترة طويلة من تبادل الحب والمشاعر الجميلة دب الملل فجأة بينى وبين زوجتى وعدت وحيداً كما بدأت الان انا اسعد حالا فى اختيارى محبسي بكامل ارادتى ، أَلم يفعلها من قبل أبو العلاء المعرى وانتج للبشرية رسالة الغفران ، كل شئ ملكى وحسب رغبتى لا ينقصنى شئ ، اما هذا الفأر فهو من دخل الى هنا بارادته واظن ان خروجه اصبح صعباً ، ليجرب معى هذه الحياة التى صنعتها بنفسى ، جلس يقرأ والفأر بين يديه يلهو ويلعب ، يتقافز بين محتويات الحجرة ويتمادى فى اللهو ، يخرج الى بقية الشقة ويعود الى صاحبه وهو سعيد وممتن ، كل ليلة يستمتع بدفئ الفراش بجانب صاحبه وبطنه ممتلئ بالطعام ، حتى نسى تماماً ايام الجوع والتسكع بين أكوام القمامة والسطو على مطابخ الشقق وتسلق المواسير ، لكنه كان كل ليلة يحلم بأصدقائه الفئران ويشتاق الى ايام وليالى كانت تجمعه بهم ، وهم يجوبون الشوارع ويلهون فى الحدائق ويلعبون على ضفاف النهر فى أيام الصيف الحارة ،

كان يصحو يجد الحبل حول رقبته والطرف الأخر مربوط بحافة السرير ، يشعر بحنين كبير نحو دخول المطبخ والقفز من الشباك والبحث عن وجبة أفطار يحيط بها المغامرة ، وتعرضه كل مرة للقتل عند دخوله الى أحدى الشقق ، كان يتفادى الضربات برشاقة ويقفز قفزات واسعة ويجرى بسرعة ويضحك من كل قلبه كلما نجح فى الهروب رغم قسوة الموقف ، الأن هو يحس ان جسمه ثقيل وبطنه كبير ، اذا قابل اصغر قط فى العمارة سيلتهمه بسهوله ، أستيقظ صاحبه ، فألقى عليه نظرة وأبتسم ، حياه الفأر بحركة ونظرة ، ثم تابعه الى المطبخ لتحضير الطعام ، كان الفأر قد مل طعم الجبن ، والطعام المعلب والحبل الملفوف حول رقبته ، كان يريد أكثر من الطعام ومن الدفئ ، كان يريد ان يشتم هواءاً نقياً خالى من رطوبة هذه الشقة المعتمة ، يستمتع باشعة الشمس الطازجة ، ويستعيد نشاطه وحيويته ، كان صاحبه يمد له الحبل ، ف يحلو للفأر ان يتسلق ويقف على الحافة الداخلية للشباك ، ينظر من الفرجة الصغيرة الى الخارج وينظر الى صاحبه ، يوماً بعد يوم ، أصيب الفأر بمرض عضال وزاد وزنه لدرجه مخيفة من قلة الحركة ، حاول صاحبه علاجه لكنه لم يجد عنده الا علبه قديمة من سم الفئران ، كانت هى الشيئ الوحيد الذى يمت بصله للفأر ، كان بينه وبين نفسه ادرك من وقفة الفأر على الشباك انه يتمنى الخروج من هذا السجن الجميل ، لكنه لم يعطى للفأر حرية اتخاذ القرار ويفتح له النافذة حتى ينطلق الى الخارج ، هو الذى قرر العزله لا يجد سوى هذا الفأر المسكين تسليه ، قام الى المطبخ جهز وجبة طعام شهية ودس بها السم ، ثم قدمها إليه ، نظر اليه الفأر بحزن ، كان يدرك انها الوجبة الأخيرة له ، أنفه لا يخطئ رائحة السم فى الطعام ، نظر الى الشباك المغلق بأحكام ، ثم نظر الى صاحبه بعتاب ، واغرورقت عيناه بالدمع ، ثم أقبل على الطعام المختلط بالسم يأكله بنهم .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.