” الجدارُ المائلُ ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

الشاعر محمد الشرقاوي

كخيطٍ سميكٍ يحاولُ المرورَ من ثقبٍ يتحدى العيونَ أن تراه ، هكذا يبدو هذا العجوزُ أثناء تكرار محاولاتِه التي تبوءُ بالفشل ، تمرُّ الدقائقُ مسرعةً يتخللُها رنينُ هاتفِه القديمِ ، يردُّ بغضبٍ مرةً ويمتنعُ مرات ، على وجهِه تنطقُ علاماتُ الضيقِ والسخطِ مما ترى عيناه ،

يسألُ نفسَه ما العملُ ، لكنه يقررُ أن يتحاملَ على صحتِه لتحقيقِ المغامرةِ فلا جدوى من طولِ الانتظارِ ، أخيرًا ينجحُ العمُّ إبراهيم ذو الخمسةِ والستين ربيعًا في اللحاقِ بإحدى عرباتِ المترو بعد أنْ عاونه بقوةٍ شابان قويان ، كتلٌ من الأجسادِ المتلاصقةِ بشدةٍ تجعلُ المنظرَ في الداخلِ كأنهُ صخورٌ صلبةٌ يستحيلُ زحزحتُها ، يلتقطُ الرجلُ أنفاسَه بصعوبةٍ بالغةٍ بينما تكادُ عيناه تذرفان .

المشهدُ الغريبُ بالداخلِ يدعو للشفقةِ والتعجبِ معًا ، تسافرُ عيونُ الشابين عبر وجوهِ الجالسينَ لعلها تكتشفُ أحدَ الشبابِ لاقتناصِ مقعدِه من أجلِ هذا العجوزِ ، ثم ينادي بذلك أحدُهما ملتمسًا شهامةَ أولادِ البلدِ ،

يقتربُ الرجلُ بصعوبةٍ ثم يجلسُ دون توجيهِ كلمةِ شكرٍ واحدةٍ ، لا يزالُ رنينُ هاتفِه كالموجِ المتدفقِ دون انقطاعٍ ، يخبرُه أحدُ الواقفينَ لكنه لا يهتمُّ ، فمشاعرُ الغضبِ التي سيطرتْ عليه تنسيه هذا الصوتَ المزعجَ ، أما جبينُه فقد صنعتْ به التجاعيدُ لوحةً من الهمومِ والمآسي المتراكمةِ القادمةِ من زمنٍ بعيدٍ ،

يهمسُ لنفسِه بكلماتٍ توحي بتلك المشاعرِ فينظرُ الناسُ إليه مشفقينَ وملتمسينَ له الأعذارَ ، يحاولُ بعضُهم التخفيفَ عنه لكن بلا جدوى ، تدبُّ الحرارةُ في صوتِه فيرتفعُ قليلًا بعباراتِ اليأسِ والحظِ العاثرِ وغدرِ الدنيا وخداعِها فيحصد بذلك مزيدًا من التعاطفِ .

يتبادلُ باسم وسامح الحوارَ حول جدولِ امتحانِهما الذي تم إعلانُه على صفحةِ الكليةِ ، يبتسمان بتفاؤلٍ ثم يحاولان التخفيفَ عن عم إبراهيم ،
– باسم : ما اسمُك يا عم ؟
– يرد الرجلُ بصوتٍ حادٍ : وما شأنُك ؟
بهدوءٍ شديدٍ يقولُ سامح : نحنُ نحاولُ التخفيفَ عنك .
على الفورِ يردُّ العجوزُ متأثرًا بشدةٍ : كيف ذلك ؟ إنَّ الصدماتِ العنيفةَ ليس لها علاجٌ ؟
وهنا يزدادُ تأثرُ السامعينَ وتتدفقُ نحو الرجلِ مشاعرُ العطفِ من كلِّ الوجوهِ ويبدي الجميعُ الرغبةَ في تخفيفِ آلامِه .
باسم : وماذا حدثَ يا عم ؟
يرد العجوزُ بصوتٍ يملؤه اليأسُ : لقد خسرَ الفريقُ البطولةَ وعدت الآنَ من الاستادِ منكسرًا حزينًا .
وهنا يخيمُ الوجومُ والدهشةُ على وجوهِ الجميعِ كأنَّ الرجلَ ألقى قنبلةً مدويةً تجعلُ كلَّ الأبصارِ شاخصةً نحوه ، الصمتُ يلجمُ الأفواهَ ، الأسماعُ لا تكادُ تصدقُ ما قيلَ ، لكنه لا يزالُ يندبُ الحظَّ العاثرَ لفريقِه متهمًا الحكمَ بعدمِ العدالةِ

هل سمعتَ مثلي ما قال الرجلُ ، كانت تلك العبارةُ همسةً من باسم في أذنِ صديقِه ، ما زالت الدهشةُ تخيمُ على

معظمِ الركابِ الذين يتبادلون نظراتِ التعجبِ ، بينما يترحمُ الرجلُ على زمنِ عظماءِ الكرةِ ثم يمضي في سردِ البطولاتِ

بتواريخِها وكذلك أسماءِ اللاعبينَ والهدافينَ والمدربينَ بينما يكادُ الذهولُ يقفزُ من الوجوهِ ، يتواصلُ الهمسُ بين

الشابين :

باسم : سبحان الله ، هل هذا عاقلٌ ؟

سامح : لا تتعجبْ ، إنه ضحيةٌ لصناعةِ الوهمِ .

باسم : ليتنا ما ساعدناه

سامح : لقد فعلنا ما يجبُ علينا

باسم : ألهذا الحد وصل جنونُ الكرةِ ؟

سامح : نعم وأكثر من ذلك ، إننا نرى كل يومٍ أمثالَه في العمرِ يتشاجرون في المقاهي والطرقاتِ من أجلِ هذه

الرياضةِ .

ما زال العجوزُ مستمرًا في حديثِه معلنًا أن انتماءه لناديه لن يتأثرَ وسوف يشجعُه لأخرِ يومٍ في عمرِه ، وهنا تتلاشى

كلُّ نظراتِ الشفقةِ القادمةِ نحوه كما يتلاشى ضياءُ الشمسِ عند قدومِ الليلِ .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.