محمد نبيل محمد يكتب : الذات المستنيرة والذات الظلامية .. (الاستثمار الثقافى والمصرى الجديد (14)
تطور الإنسان وارتقاؤه مرهون بأمرين كانت الأخلاق هى أولاهما والعلم ثانيهما, ولما كانت الأخلاق للنفس, وصار العلم نتاج سلوك الفهم والإدراك للعقل, وكلا النفس والعقل من مكونات الإنسان التى تحدثنا –سويًّا– عنها, ولما كان للعقل تعريفات عدة تحت عناوين الفلسفة -أم العلوم- وغيرها من العلوم الإنسانية مثل علمى النفس والاجتماع, وعلوم الدين كالتفسير والفقه واللغة وغيرهم كُثر, إلا أن أقرب تعريفات العقل التى أميل اعتقادًا وعاطفةً إليها هى كون العقل (قبس من نور إلهى)، وكأنى أستدل بنظم الإمام الشافعى عندما عاتب نفسه عند أستاذه وكيع عن غياب كرامة الفهم والحفظ عنه لبعض الوقت، فغدا ينشد: شكوت إلى وكيع سوء حفظى.. فأرشدنى إلى ترك المعاصى.. وأخبرنى بأن العلم نور.. ونور الله لا يُهدى لعاصٍ. وأسرد العارف بالله أبو الحسن الشاذلى: ومن أمده الله تعالى بنور العقل الأصلى شهد موجودًا لا حد له ولا غاية.
ولا أتحدث عن قصد الأخلاق فى أبيات الشافعى، إنما عن تفسيره للعلم بكونه نورًا إلهيًّا, وهكذا الفهم والإدراك عند الشاذلى, ولأن العلم نتاج سلوك الفهم والإدراك للعقل المُهدى إليه النور أو القبس؛ لذا كان العقل بالكلية من فتوحات وإشراقات وفيوضات الله على خلقه, وهنا لا أذهب بالعلم ومصدره (العقل) إلى الغيبيات؛ لأن واقع الأمر أن إبداعات العقل لا ترتبط بالاعتقاد الدينى والمذهبى دون سواهما، بل هى فحسب هذه الإبداعات من نتاج إعمال العقل, كما يردد البعض مقولة الجاحظ من ألف عام مضت: إن الأفكارعلى قارعة الطريق إنما! مَن يراها؟ أو مَن يلتقطها؟ وهنا العبرة من سرد هذه المقولة التى ترتكن إلى القدرة على الانتقاء ما بين الغث والثمين، وتلك من إدراكات العقل وإعماله ولا شك, بينما لا يرى الإنسان كما استدل العلم وأثبت إلا عندما ينعكس شعاع الضوء من الأشياء إلى عين الإنسان بجميع مراحلها التشريحية نهاية بوصول الصورة إلى العقل فيدركها, إذًا فالأمر كله مسارات لأشعة الضوء, وبالمثل تبرق فى العقل الفكرة كومضة عدسة الكاميرا فى أزمنة متناهية الصغر، كتلك التى حدثنا عنها زويل صاحب نوبل, وكما يسرد الأدب وتقدم الدراما المعالجات البصرية التى تعكس كيف اكتشف نيوتن قانون الجاذبية من أمر تكرر ملايين المرات أمام ملايين البشر، لكنه وحده نيوتن من رأى بعقله سقوط التفاحة من أعلى الشجرة إلى الأرض.
هكذا الذات العارفة أو المستنيرة ترى بالعقل وتمنحه فرصته فى الفعل والفصل, فهى ذات تعلم وتدرك كيفية إدارة مقدراتها، فتمنح للعقل مساحات الكد والاجتهاد حتى ينتج لها ما تحتاجه من إيضاءات للمناطق المظلمة، وهى التى استشكل على الآخرين رؤيتها وفهمها وإدراكها, وهذه الذات المستنيرة بالعقل تعلم يقينًا أين تضع خطواتها الواحدة تليها الأخرى بثبات، لأنها أضاءت طريقها بالعقل وصارت تملك الفعل ونواصيه، وتمسك بزمام المبادأة، وتتقلد مواضع الريادة فحسب عندما تركت للعقل أن يقوم بدوره المخلوق له, وخلفها بمسافات تتخلف ذوات رفضت طواعيةً وقسرًا إعمال العقل فى إضاءة دروب حياتها، ففقدت من البداية تلك الحياة، وباتت تغط فى ظلامية الجهل وعبثية الأساطير، حتى تقيدت بأغلال الرجعية وانغمست فى غيابات التخلف, فلا هى فارقت وانقضى أجلها لترتاح بالموت والفناء، ولا هى اختارت العقل لينير لها الحياة, فكانت ذاتًا تفتقد أسباب الوجود وترضى بالتبعية كما الأنعام التى لا تدرى من يقودها هل هو واحد من العميان من جنسها يقودها إلى المجهول؟!, أم هو من غير بنى جنسها ككلب رعى، وارتضت تلك الذوات الظلامية أن يقودها كلب! أو ذيب (ذئب) ينال منها واحدة تليها أخرى ويسير بها إلى مذبحها! وهنا تبرق حكاية نهايتها تقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!.
الذات المستنيرة العارفة ليست بالضرورة من زمرة العلماء، ولا المفروض أن تكون ذاتًا خلاقة أو مبدعة، إنما هى فحسب ذات تملك مشعل العقل وتسعى لإثبات وجودها، فلا وجود لغير عاقل وإن كان يتنفس ويأكل ويشرب كبقية الكائنات، إنما هو كصفر عددى موجود، إلا أنه لا يمثل أية قيمة إلا عندما يكون تابعًا لغيره وحسب! وهنا يختار الإنسان بإرادته التى سيتخلى عنها فور تحقق هذا الاختيار مباشرة؛ يختار أن يكون عبدًا أسيرًا لغيره يرضى بكل ما يفعله به مولاه، كأن يسوقه إلى الهلاك عندما يكون كلًّا على مولاه, أو أن يبقيه فى ظلامات الجهل حتى لا يملك إرادته ثم حريته ثم وجوده الحقيقى, ويتحول بانعدام وتبدد نورعقله إلى مفعول به.
وهنا صاغ الأدب رائعة فيكتور هوجو (أحدب نوتردام)، التى ارتضى فيها هذا الأحدب كوازيمودو أن يكون أسيرًا لسيده الظالم دوق كلود فرولو، الذى غيَّب عقل هذا الأحدب وأملى عليه معارفه التى تشى بالخوف من القادم، مما قتل روح المغامرة والخلق داخله, وأزهق فى قلبه حب الآخرين وصنفهم أعداء يهددون وجوده المعدوم!, وأفهمه أن العبادة الحق هى فحسب طرق أجراس كنيسة نوتردام حتى يوقظ الآخرين الغافلين, وهكذا حاك أصحاب صكوك الغفران والوجوه العابسة والأصوات المنفرة والسلوك الشاذ لتابعيهم من العميان أنهم هداة النور, وهم فحسب دعاة الطُّهر, ولا سواهم يملك مفاتيح الجنان ويعرف دروب أبوابها, وهم مَن يفتون بالفناء لغيرهم من عميان العقل ليبقوا هم خالدون كما مصاصى دماء التى ألفها برام ستوكر عن (دراكولا) أو (فلاد)، هذا الذى عاش وخُلد على مص دماء الآخرين, تمامًا كما يفعل هؤلاء الذين يغيبون عقول العوام ويصورون لهم أن الحياة فى الفناء من أجلهم, رغم أنه بقليل من جهد العقل ندرك أنهم يقولون ما لا يفعلون.
وعلى كل منا أن يدرك عِظم وقيمة الاختيار، ويقيم ذاته ويصنفها ما بين المستنيرة الفاعلة والظلامية المفعول بها.
وسيأتى الحديث عن الذات البناءة والهدامة, وغيرها العادلة والباطشة. ونستكمل فى القادم إن شاء الله لنبنى أركانًا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وإدراكه لإمكاناته فى التغيير, وعلى الإنسان أن يُعيد تقييم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية فحس، وإنما الباطنة أيضًا, ويعود كما كان أجداده الأصل وأصحاب الفعل، وليس الشبه والمفعول به!.