قراءة في مسرحيتي ( حكاوي السمسية و بلد الغريب ) للأديب مجدي مرعي
بقلم الشاعر محمد الشرقاوي
إن الفن بصفة عامة هو الصورة المعبرة عن حياة المجتمعات ومدى ثقافتها ومكوناتها الشخصية ، ويستطيع أي عاقل أن يدرك من خلال الفن مدى قوة وصلابة الشعوب ومدى ضعفها وهشاشتها ، والمسرح من أقوى وأهم الفنون فهو ترجمة واقعية سريعة للأحداث ومن أهم وسائل قوته التواصل المباشر بين المبدع والمتلقي مما يؤدي إلى تعايش حقيقي واندماج وسرعة تفاعل بين الجمهور من ناحية وبين الفكرة والأداء من ناحية أخرى .
وبين أيدينا مسرحيتان للأديب والفنان والمخرج المسرحي مجدي مرعي ، هاتان المسرحيتان يأتيان امتدادا لأعمال سابقة حققت قدرا وافرا من النجاح والانتشار ولفتت أنظار النقاد والمفكرين والمثقفين فهو يكتب للكبار والصغار وله فضل كبير في نجاح المسرح المدرسي مما يجعله رائدا مهما في هذا المجال ومن أعماله نذكر : زيارة لمدينة الأحلام ، عرايس قماش ، حيوانات لكن ، لعب × لعب ، وغير ذلك — ، كما كتب مسرحا لذوي الهمم مثل احلم يا جحا ، خليك مكاني ، وسيرته الذاتية حافلة بالإنجازات التي يطول سردها .
أما عن هذين العملين ( حكاوي السمسية و بلد الغريب ) فإن القارئ لهما يجد نفسه منتبها أشد الانتباه متعايشا مع الأحداث لحظة بلحظة يترقب ماذا سيحدث وكأنه فرد من أفراد الحبكة الدرامية وجزء أصيل من المشهد ، هاتان المسرحيتان لا غنى عنهما لكل طالب ومعلم ومثقف ولكل محب لأرض مصر العظيمة وتاريخها الحافل بالكفاح ، فهما يسلطان الضوء على حقبة مهمة جدا من تاريخ مصر الحديث والمعاصر وبطولات هذا الشعب وتضحياته التي تنبع من إيمانه الراسخ بحقه في الحرية والرخاء والعدالة ، تأخذنا الأحداث إلى منطقة عزيزة على قلوبنا جميعا ألا وهي منطقة القناة بمدنها الشامخة الصامدة والتي سطرت من البطولات ما تنوء به عشرات المجلدات الضخمة مما يجعل التاريخ الحديث يقف لها إجلالا وتعظيما ، فتلك بطولات ستظل دليلا وهاديا وسراجا لكل الأجيال القادمة .
وعن المسرحية الأولى ( حكاوي السمسية ) والتي تدور فكرتها حول أحداث حفر قناة السويس وكيف تم في ظل ظروف قاسية على شعب مصر بدأت من السخرة وإجبار الشباب والرجال على هذا العمل والمشاركة فيه بكل فاعلية وشعورهم بالمعاناة الشديدة من مشقة العمل الدائم وعدم توافر امكانيات المعيشة الآدمية في ظل مناخ غير ملائم مما أدى لموت آلاف من خيرة شباب الوطن دون أدنى اهتمام من ولاة الأمر آنذاك ، وقد جاءت المسرحية عامرة جدا بالشخصيات الرئيسية والثانوية ، فمن الشخصيات الرئيسية تلك السيدة ( أم صابر ) حيث جسدت دورا دراميا بالغ الأهمية والخطورة من خلال تعلقها بابنها صابر وبحثها الدائم عنه بعد ذهابه مضطرا للعمل في حفر القناة وعدم عودته مما أصابها بالحسرة الشديدة لفقدانه ، كما لعب عم إسماعيل ( صاحب صندوق الدنيا ) دورا فاعلا ومؤثرا سواء في الجانب السردي أو الحواري فهو المحرك الزمني للانتقال من حدث لآخر مشيرا إلى شخصيات تاريخية وزعماء بارزين في المشهد السياسي وقتئذ مثل الزعيم أحمد عرابي والشيخ عبدالله النديم والمناضل مصطفى كامل وغيرهم من الزعماء المصريين والأجانب مما أدى إلى تصاعد درامي فائق الروعة شديد الإثارة وقد استطاع أن يستخرج البسمة والدمعة من جمهور المشاهدين .
كما أضاف الأراجوز ( سي علي ) والأراجوزة ( حلاوتهم ) مزيدا من المتعة والجمال من خلال مشاكسة مستمرة بينهما في إطار من الكوميديا المسايرة للأحداث ، وكذلك أدى حامد دورا رئيسا في وصف الأحوال الاجتماعية من خلال نظرته اليائسة لما يحيط به حيث ظل ثابت الفكرة والنظرة طوال أحداث المسرحية ، وهناك العديد من الشخصيات التى أدت أدوارا أقل من حيث المساحة ولكنها مؤثرة في الحبكة الدرامية بشكل كبير مثل صابر والخفير والوالي والخديوي وديليسبس وغيرهم .
ويلخص عم إسماعيل فكرة المسرحية في عدة جمل جاءت في صفحة ٣٨ حيث يقول : تعالوا يا أولاد ، تعالوا اتفرجوا على حفر القناة واتفاق ديليسبس مع الوالي سعيد ، مية وعشرين ألف من أبناء مصر الطيبين أستشهدوا وهم بيحفروا القناة ، تعالوا اتفرجوا دا الفرجة النهاردة ببلاش .
كذلك من الجمل الحوارية المؤثرة جدا حول عقدة المسرحية ما قالته أم صابر في صفحة ٤١ :
صابر معاودش واصل ، صابر يا ناس صاحي ولا عايش ، فين صابر يا ناس ، دلوني عليه ، الجنال وحفروها الأنفار خلاص ، منهم اللي عاود ومنهم اللي معاودش واصل ، فين صابر يا ناس ؟
وهكذا تتوالى الأحداث في تشويق وإثارة وترقب لما سيحدث انتظارا للحل الذي سيأتي به العمل حيث تشابكت الظروف ضد شعب مصر العظيم من أطماع خارجية إلى تواطؤ داخلي وفساد إداري ، لكن بقيت بقعة الضوء مستمرة من خلال التفاف الشعب حول أبنائه الأحرار الذين رفعوا لواء الحرية والكرامة .
اما المسرحية الأخرى وهي ( بلد الغريب ) فهي تجسد ما تعرضت له مدينة السويس الباسلة في إشارات سريعة عن فترات تاريخية بدء من عام ١٨٨٢ ثم ازداد التركيز في الأعوام التالية وصولا لنصر أكتوبر عام ١٩٧٣ ، تضم المسرحية ثمانية مشاهد متنوعة الأماكن متتالية في ترتيب الأحداث وسخونتها ، يقوم بالأدوار الرئيسية العم كامل ( مدرس التاريخ ) والذي تخطى الستين من عمره ويجلس في بيته مصابا ، كذلك زوجته التي كانت تعمل معلمة قبل ضعف ذاكرتها وأيضا الابن كريم الذي كان يدرس في الخارج ويعود خلال أجازته وهو عاشق للتاريخ وأغاني البطولات مجيد للعزف على السمسمية وأيضا الحاج أحمد بكري وهو صاحب المقهى الذي شهد لقاءات الأبطال والفدائيين ومشاوراتهم وخططهم لمواجهة العدو ، ثم مجموعة الفدائيين الذين يجيدون الرياضات العنيفة مما ساعدهم لتنفيذ مخططاتهم البطولية ومن هؤلاء احمد عطيفي ، أحمد أبو هاشم ، محمد سرحان ، إبراهيم سليمان ، محمد عواد ، فايز حافظ أمين ، أشرف عبدالدايم وغيرهم من الشخصيات التي أدت إلى اكتمال المشاهد الدرامية في براعة وجمال فائقين .
تبدأ أحداث المشهد الأول في بيت الأستاذ كامل حيث يقص لابنه كريم أحداث مهمة عن مدينة السويس وبطولات أبنائها في إشارة من الكاتب مجدي مرعي إلى أهمية تواصل الأجيال وحفظ أحداث التاريخ ليظل شباب مصر واعين بماضيهم وحاضرهم من أجل صنع مستفبلهم ، ثم يأتي الفدائيون ليتسع المشهد ويتفرع الحوار وتكتمل الحبكة الدرامية ما بين الكوميديا التي أضافتها الأم ضعيفة الذاكرة وخفة دم الفدائيين وإعجابهم بكرم الأستاذ كامل وزوجته والأداء الرائع الذي قام به كريم من خلال نغمات السمسمية وكلماته الحماسية الرائعة .
ثم تنتقل الأحداث في المشهد الثاني إلى مقهي أحمد بكري حيث يجتمع الفدائيون ويتحدثون عن الوضع الراهن في الأيام التي تلت يوم العبور ١٩٧٣ وما يحلم به الناس من عودة أهاليهم المهجرين وكذلك عودة الحياة إلى طبيعتها في شتى المجالات ، كذلك ردود فعل إسرائيل ومحاولة إثبات وجودها من خلال عدة عمليات عدوانية على المواقع العسكرية والمدنية وما يقابل ذلك من فدائية أبطال السويس ومدن القناة وذلك من خلال حرب الشوارع والميادين .
ومن المشاهد المؤثرة التي تعبر عن الصمود والبطولة ما جاء في ختام المشهد الثاني صفحة ١١٨ على لسان بكري صاحب المقهى مخاطبا الفدائيين : أسيب مكاني وقهوتي لمين ؟ متخافوش ، العناية الإلهية كانت بتعزل القهوة عن صواريخ العدو ، البيوت اللي قدامي واللي ورايا اتضربت بالصواريخ وفضلت القهوة عشان تبقى مفتوحة للي عاوز يستخبى فيها ، القهوة هتفضل مفتوحة ليكم عشان تطمنوني عليكم ، اتفضلوا قوموا متخافوش عليا ، العمر واحد والرب واحد .
ثم يعود المشهد الثالث إلى بيت الأستاذ كامل ويدور الحوار عن حصار إسرائيل للسويس وقطعها الطريق إلى القاهرة وما سيفعله الأبطال من إعداد الكمائن اللازمة وتحديد أماكنها ويوضح ذلك المشهد بسالة الفدائيين كما يظهر وجه جديد يرغب في الانضمام لصفوف المدافعين ، ذلك الوجه هو الشاب كريم الذي يغني على أنغام السمسمية في صفحة ١٢٤ :
غني يا سمسمية ، لرصاص البندقية ، ولكل إيد قوية ، حاضنة زنودها المدافع ،
غني للمدافع واللي وراها بيدافع ووصي عبدالشافع ، يضرب في الطلقة مية .
وفي المستشفى تدور أحداث المشهد الرابع بين الفدائيين ومسئول المخزن الذي يمتنع عن تسليم الأسلحة لهم ولكن بعد محاولات وحيلة وإقناع يستجيب لهم ، ويصور هذا المشهد مدى الإصرار على إيجاد حلول لزيادة القوة الدفاعية من خلال كل ما يتاح أمام الأبطال ، وننتقل بعد ذلك إلى ميدان الأربعين حيث المشهد الخامس والتشاور بين الفدائيين ورسم الخطط لتنفيذ عمليات جديدة ضد العدو الصهيوني ومما زادهم تصميما مرور المصابين من المواطنين المدنيين أمام أعينهم ثم مشاعر الشجن والألم التي سيطرت على أشرف عند آذان الفجر حيث تذكر أمه وقيامها للصلاة في مقر إقامتها بالإسكندرية بعد التهجير ثم ينتهي المشهد بذهاب الأبطال إلى المسجد لأداء الصلاة ، ومن الجمل الرائعة التي تصور الحنين والفداء ما قاله أشرف في صفحة ١٣٢ : يامه أنا ما أجيش حاجة جنب شباب مصر اللي بيحارب ، ادعيلي بس ربنا يوفقني وأقدر أعمل حاجة تشرفك وتشرف السويس .
ويأتي المشهد السادس معبرا عن جهود الفدائيين ومدى تعرضهم للموت والإصابات دون تراجع لكنهم أصابوا العدو بخطورة وكذلك التحام آلاف المواطنين مع الجنود لمواجهة العدو الذي لجأ للاحتماء بقسم الأربعين وسينما رويال ومما يوضح ذلك نقرأ ما قاله الفدائي إبراهيم سليمان في صفحة ١٣٩ : الناس خرجوا من حواري الأربعين والبيوت المتهدمة ، بيضربوا نار وبيرموا قذائف المولوتوف والقنابل اليدوية وبيصطادوهم زي الفيران . ثم ينتهي المشهد باستشهاد الفدائي أحمد أبو هاشم .
ونصل إلى المشهد السابع حيث ينضم البطل الشاب كريم إلى كتيبة المقاتلين الساعين لاقتحام قسم الأربعين ، تدور الحوارات بين كريم والأبطال حيث يخبرهم باستشهاد والديه مع عدد كبير من سكان الحي إثر إحدى الغارات ويستطرد في الوصف بأداء يفيض بالشجن والألم ثم يوضح إصراره على الانتقام ومما قاله عن ذلك في صفحة ١٤٥ : جريت في الشوارع لقيت فدائي مرمي على الأرض ميت وفي إيده الأربوجيه بتاعه ، أخدته منه وفضلت أضرب بيه ع الصهاينة موت منهم تلاتة ، لقيت وابل من الرصاص من كل ناحية ، رميت نفسي على الأرض وفضلت أزحف لحد ما اختفيت عنهم ، ويتخلل المشهد غناء درامي يردده كريم يدل على إصرار أهل السويس على الثأر من الأعداء ثم ينتهي المشهد باستشهاد البطل إبراهيم سليمان .
وفي المشهد الثامن وهو آخر مشاهد المسرحية يدور الحوار بين كريم والحانوتي ومن تبقى من الفدائيين ويبدو الحانوتي متأثرا بموت إبراهيم سليمان وتعليق جثمانه على سور قسم الأربعين ثم ينفذ الأبطال هجومهم فيستشهد معظمهم ولكن ينجح أحدهم في تخليص جثمان إبراهيم سليمان وكذلك تم تدمير عدة دبابات إسرائيلية ومن الجمل التي تعبر عن قسوة المشهد وعمق الألم ما قاله كريم في صفحة ١٥٢ : جرحي حالف ما يبطل نزف إلا ما أكتب بدمه جنب اسم أبويا واسم أمي أسماء كل الشهداء : إبراهيم سليمان ، إبراهيم يوسف ، أشرف عبدالدايم وفايز أمين ابطال معركة السويس ٢٨ رمضان الموافق ٢٤ أكتوبر ١٩٧٣ .
وهكذا كانت جولتنا في مسرحيتي ( حكاوي السمسية وبلد الغريب ) للأديب مجدي مرعي ونود أن نشيد ببراعته في الحبكة الدرامية وسمو الفكرة والجمل الحوارية وتوزيع الأدوار المكتظة وتوثيق الأحداث من خلال المكان والزمان وقد جاءت لغته سهلة بسيطة ومعبرة تميل أجزاء كثيرة منها إلى الشعر وقد استطاع أن يجعل المشاهد والقارئ مشاركا فعليا بوجدانه ومشاعره ، وهذا النوع من المسرحيات التاريخية مهم جدا لزيادة الوعي وغرس الانتماء وتبصير الأجيال بما قدمه أباؤهم وأجدادهم من تضحيات بالنفس والمال وكل ما يمتلكون للحفاظ على هذا الوطن الغالي ، ونود أن نشير إلى أن مضمون المسرحيتين يمكن أن يتحمل المزيد من الأحداث والتفاصيل فبين كل حدث وحدث ذكرهما المؤلف هناك أحداث أخرى لكنه حاول جاهدا التركيز على النقاط الرئيسية حتى لا يتحول العمل من الإثارة والمتعة إلى الملل والرتابة وبصفته مخرجا وفنانا فقد استخدم خبرته الطويلة في تحقيق الانسجام بين عناصر العمل ككل ، وختاما نوجه له التحية والتقدير وإلى مزيد من الأعمال الناجحة كما نود أن نشكر الأديب الكبير والناقد الحصيف د صلاح معاطي والذي قدم دراسة متأنية واعية عن المسرحيتين تساعد كل من يقرأها في سرعة فهم المغزى والتفاصيل وقد اوردها المؤلف في بداية الكتاب .
حفظ الله مصر واحاطها برعايته