محمد نبيل محمديكتب : الثقافة والهوبة الوطنية .. ثقافة الدعاية ودعاية الثقافة (1/ 3)
ربما كان الظهور الأعظم للدعاية الهجومية خلال حرب الخليج الثانية ، فكانت الاولى بين العراق وايران وظلت قرابة العقد الكامل، من اغسطس 1980 وحتى سبتمر 1988، وأطلق عليها العراق أسما دعائيا “قادسية صدام” بينما الاسم الدعائى الفارسى فكان “الدفاع المقدس” ولم ينتصر أيا من الطرفين بل خارت قواهما تمهيدا لاحداث فراغ استراتيجى فى المنطقة(!).
أما الثانية فكانت عربية ـ عربية بين العراق والكويت فى يوليو 1990، وكلا الحربين كانتا نتيجة منطقية للاستجابة لدعايات العدو الأكبر فى احداث الوقيعة العربية الفارسية أو السنية ـ الشيعية، ثم الإعتداء الأخوى العربى ـ العربى، لانهاك القوة العسكرية لكافة الأطراف التى تسلحت حتى شارفت أن تكون فى مصاف الدول العظمى، من جانب ومن آخر لاستنزاف ثروات العرب البترولية وتوجيهها للاستجابة للدعايات الغربية فى اقتناء السلاح الغربى بل وانشاء القواعد العسكرية الغربية لحماية المقدرات والدفاع الغربى عن الأخوة فيما بينهم، وكانت تلك أعظم نتائج الدعايات.
الى أن تطورت الدعاية الى الترويج للأفكار التى تهزم الجيوش وتستعبد الشعوب دون تذخير البارود، وذلك من خلال طمس الهوية الثقافية الوطنية وزلزلة ثوابتها العقائدية وتشويه أنساقها الأخلاقية، وإبدال منظومة القيم، وضياع جملة المبادىء الانسانية، وتأتى هذا من خلال نشر واتاحة آليات الاجتياح المستمدة قوتها من أجيال عصر المعلومات وثورة الرقمنة وطوفان الذكاء الاصطناعى، فتحققت السيطرة الفردية والجماعية فى آن واحد على أفراد الشعوب ومجاميعها من خلال وسائل الاتصال المحمولة “الذكية” التى تكشف ادق الخصوصيات عن مستخدميها حتى تعطى الآخر مفاتيح الحركة والثبات فى الشخصية الفردية والجمعية بل والقدرة على تحقيق هجوم يحدث تغيرا ثقافيا ثم اجتماعيا ثم اقتصاديا وينتهى بتغيرات جيوسياسية من الممكن أن تعدل الحدود السياسية للدول وكذلك تمزق الوحدة المجتمعية للشعوب وتفرق عقائديا وعرقيا وتكون من الشعوب أنفسها ميليشيات عسكرية تعتنق أفكارا تهدم وحدة دولتها وتمزق نسيج مجتمعها وتكفر بعضها البعض وتستبيح حرمة الدم والملكيات، بل تجاوزت كل ذلك بأن عادت لبدايات مجتمع الغاب وشرّعت أسر الأطفال وسبى النساء واهداءهم فيما بينهم لبعضهم البعض (!) وكل هذه الدعاية العدائية تجاه مجتع مستهدف تتم من خلال هذه الميليشيات التى تكونت من أبناء الأرض ضد أهلها و أرضها بما يسمى باصطلاح “حرب بالوكالة”.
وعمت بهذه الدعاية “الفوضى الخلاقة” التى تحدثت ونظرت لها كونداليزا رايس فى 2005 وصاغتها هيلارى كلينتون فى كتابها “الخيارات الصعبة” وصدر فى “مليون” نسخة 2024 تناول مذكراتها عندما كانت وزيرة للخارجية الامريكية فى الفترة من 2009 ـ 2013
والحديث هنا عن هبوب ثورات الربيع العربى والغريب المثير للفضول انها هبت على الدول وليس الممالك والامارات (!) وحدث أعظم استخدام للدعاية الغربية لتعميم وفرض نموذجها “المسخ”على الشخصية المصرية وروجت خلال هذه الفترة لاقحام مصطلحات بعينها لم تكن ضمن المكون الثقافى المصرى أو من ثوابت النسق الفكرى الجمعى وهى بالتحديد ـ لا على سبيل المثال ـ مفردات “الاغتراب” و”المثلية” و “الالحاد” تلك أضلاع مثلث الهجوم على الشخصية المصرية وتمت خلال الهجوم تطويع كافة اليات الدعاية ومنها تطبيقات برامج التوصل الاجتماعى التى تعمق الخلاف والابتعاد وليس الاتفاق والتواصل، والمنصات الرقمية التى تأصل للأغتراب والانعزال عن تجمعات الوحدة المجتمعية الاولى، وما يتخلل كل هذه الأليات من مضامين تستهدف هدم الاخلاق، وتكفير الآخر، وقتل الانتماء للارض والاهل، فيما عرف بحروب الجيل الرابع.
وهذا التطور لفكرة الدعاية التى خرجت من رحم نظريات الاتصال التى نظر لها علماء الاجتماع والسياسة فى بدايات العقد الخامس من القرن المنصرم أمثال الكندى مارشال ماكلوهان الذى صاغ المفاهيم الأولى لنظريات وسائل الاعلام بين دفتى كتابه «جوتنبرج جالاكسي: صناعة الإنسان المطبعى” (1962) والكتاب الثانى “فهم وسائل الإعلام” (1964) الا ان الدعاية خرجت عن سياقها التروجى للمنتجات وهو الاهدف الكلاسيكى، إلى مناحى أكثر تطرفا حتى كانت سلاحا قويا فى أيادى الساسة والراغبين فى السيطرة وبسط النفوذ…. وتحولت آليات ووسائل الدعاية إلى أنماط حياة من حيث التفكير والشعور ومن حيث السلوك الاعتيادى اليومى فصح أن يطلق عليها “ثقافة الدعاية” التى يتثقف بها عموم الناس والصفوة الخاصة منهم لتحقيق مأربهم المختلفة والمتباينة. (وللحديث بقية ان شاء الله)