من معالم الحضارة الأندلسية : التناغم الموسيقي بين المقاطع العروضية والتجربة الشعرية في القصيدة الأندلسية
إعداد الدكتور عاطف عبد اللطيف السيد أستاذ الادب والنقد المتفرغ بكلية اللغة العربية بالزقازيق
الحمد لله على جميل آلائه وجزيل نعمائه، والصلاة والسلام على خير رسله وأكرم أنبيائه، محمد ابن عبدالله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه إلى يوم الدين.. وبعد
ففي العصر الأندلسي درر يتألق وميضها في ساحة الفكر، وفرائد تنبعث أشعتها في ميدان الأدب، بث فيها الشعراء دفقاتهم الشعورية، وسلطوا من خلالها الأضواء على الأحداث التي تحدث وتترى لأعين الناس، وعرضوها في ألوان من البلاغة، وأنماط من الفصاحة وصور جمالية دقيقة وتجارب شعرية رقيقة، وفجَّروا فيها طاقات الكلمة، وجعلوها تنساب انسياباً يأسر العقل والقلب، ويمتلك المشاعر والحس، مما يشير إلى ما كان يتمتع به هؤلاء الشعراء من ثقافة واسعة واطلاع كبير على الثقافات الأخرى المتعددة، تلك التي أسهمت بصورة كبيرة في رقي قصائدهم وتطورها حتى أضحت درراً يتألق نورها، وفرائد تتجمل بألوان الحضارة وتزدان بالتجديد في ألفاظها وأساليبها وصورها وموسيقاها.
ومن هذه المظاهر الجمالية والفنية التناغم الموسيقي بين المقاطع العروضية والتجربة الشعرية في القصيدة الأندلسية، ويتضح ذلك من خلال محاور ثلاثة، الأول: التناغم بين الأسباب الخفيفة والتجربة الشعرية، والثاني: التناغم الموسيقي بين الألفاظ وصلته بالتجربة الشعرية، والثالث: التناغم الموسيقي في الجمل والعبارات وصلته بالتجربة الشعرية.
وقد وقفنا في هذا المجال عند أربع قصائد شعرية لبعض شعراء العصر الأندلسي لنرى فيها هذا التناغم وذاك الانسجام، القصيدة الأولى لابن هانئ الأندلسي في رثاء والدة جعفر ويحيى ابني علي بن حمدون، تلك القصيدة التي يتحدث فيها الشاعر عن النفس الإنسانية، وكيف تواجه الموت وتستعد له وتتقبله، وتتمنى للعمر طولاً وللسعادة والنعيم أمداً بعيداً، وذلك رغم علمها بأن العمر جد قصير، وأنها ترى في يومها من الصرعى الكثير، وأن الموت يأتي إلى الإنسان بغتة، وينقضي به عمره فجأة، فيرحل فيه إلى مستقره ومنتهاه، وينفك فيه عن كل شيء في دنياه، فيقول الشاعر في مطلع قصيدته(1):
إنا وفي آمال أنفسنا
طول وفي أعمارنا قِصَرُ
والقصيدة الثانية لأبي البقاء الرندي في رثاء المدن والممالك الزائلة، وهي تعد من أروع ما قيل من شعر في رثاء المدن الزائلة والممالك الإسلامية التي عصفت بها عواصف الضعف ومآسي المحن والخطوب فعبر الشاعر فيها عن طريق التناغم الموسيقي الناشئ (عن الحسرة والألم، والنابع من حب الأوطان والممالك الحضارية الرائعة)، فأنشدها يستنهض بها الهمم ويستثيرها لنصرة الأندلس السليب، فيقول في مطلعها(2):
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ
والقصيدة الثالثة لابن زيدون في الغزل، وقد بدت فيها المنابع الجمالية لقصة الشاعر مع ولاَّدة بنت المستكفي، وما كان فيها من خوف وأمن، ويأس ورجاء، وكدر وصفاء، وسعادة وشقاء، فالتكوين الحياتي والنفسي لدى الشاعر ولَّد في نونيته جمالاً في الألوان والظلال وتناغماً في المقاطع العروضية وانسجاماً مع مشاعر الشاعر وأحاسيسه، وفي ذلك يقول الدكتور مصطفى الشكعة: “.. إنَّ صدَّها عنه وهجرها إياه وإهمالها شأنه وجرحها كبرياءه، كل ذلك تجمَّع في حناياه تجمع ماء السيل في بطن الأرض، ثم ما لبث أن تفجَّر ثراً عذباً مروقاً سلسالاً، فكانت قصيدته النونية التي تعتبر.. الينبوع الصافي والزلال المتفجر بالمعاني والعواطف والأساليب والألفاظ والموسيقى والإيقاع والنفس الطويل العذب، والغوص العميق الصعب، لقد استجمع ابن زيدون كل شاعريته، وفجر كوامن عواطفه، ونثر الدر من معانيه، واستعرض سحر قوافيه لتكون قصيدته عبرة لكل محب، وسلوى لكل صب، وكنزاً لكل أديب، ومثلاً لكل شاعر، لقد جعل منها معرضا للعواطف والأحاسيس في كل حالتها من عشق وغزل ويأس وأمل وشكوى وحنين وتوسل وحسرة وتأس وأسى وصدق ووفاء وعتاب وتقريع”(3).
يقول الشاعر في مطلع قصيدته(4):
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
والقصيدة الرابعة لابن زيدون، يشكو فيها سجنه وحبسه، ويعزي فيها نفسه، ويندبها ويواسيها، ويعرض فيها تقلبات دهره له من بأساء وبرحاء، وسعادة وشقاء، وجدب ونماء، وقطيعة وجفاء وآمال وابتلاء وحسن بهاء، فيقول في مطلعها(5):
ما على ظني باسُ
يجرح الدهر وياسو
المحور الأول: التناغم الموسيقي بين الأسباب الخفيفة وصلته بالتجربة الشعرية في القصيدة الأندلسية
إذا وقفنا على قصيدة ابن زيدون في الغزل والتي أشرنا إليها سابقاً نرى أنها نظمت على وزن بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن…) هذا البحر الذي يجود في التعبير عن القسوة والشجن والتذكر والحنين والنجوى والفقر والفراق والندب والبكاء والأنين، نرى التناغم المقطعي العروضي واضحاً بين أجزاء تفاعيله وأسبابه، ففي البيت الأول من قصيدته والذي يقول فيه:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
جاء العروض والضرب فيه على وزن (فَاعِلْ) وحُوِّل إلى (فَعْلُن)، وهو يشتمل على سببين خفيفين هما (نِيْنَا) (فِيْنَا) ورمزهما (اه اه)، جاء الحرف الأول فيهما مكسوراً (نِ) (فِ) وجاء الحرف الثاني فيهما ساكناً (يْ) (يْ)، وجاء الحرف الأول في السبب الخفيف الثاني في العروض والضرب مفتوحاً (نَا) (نَا) ثم تلاه الحرف الساكن فيهما وهو الألف (أ) (أ)، ونرى بين هذين السببين انسجاماً وتناسباً وتناغماً وحواراً صوتياً جميلاً، فكل منهما يعبر عن موقف محدد في تجربة الشاعر، فالمقطع الأول المكسور أوله (نِيْ/ فِيْ) يعبر عن ألم الشاعر وشجنه، ويعلن للعالم مدى المأساة التي تحيط به وتغمره، وهذا ما تعبر عنه الكسرة في الحرف الأول فيهما، فالكسرة تعلن عن انكسار الشاعر أمام القلق النفسي والتوتر القلبي والبين والفراق، ثم تلا الحرفَ المتحرك المكسور الحرفُ الساكن الذي يوحي بأن الأسى والألم لدى الشاعر قد سكن واستقر، وأضحى الشاعر يتقلب في طياته، ولاينفك عنه.
وأما المقطع الثاني المفتوح أوله في العروض والضرب (نَا/ نَا) فيعلن عن رغبة الشاعر في الانطلاق من أسر المعاناة وقيد المأساة والفرقة إلى فضاء الحب والود واللقاء والصفاء مع محبوبته، فالفتحة في أول السببين انفتاح وانطلاق وتطلع إلى غدٍ مشرق تغمره البهجة والفرحة والسعادة الغامرة باللقاء، فبين السببين الخفيفين بصفة عامة تناغم وانسجام وتعبير صادق عن حالي التناقض والتضاد لدى الشاعر في تجربته.
ونرى هذا التناغم وذاك الانسجام المقطعي العروضي المعبر عن تجربة الشاعر المتوترة في بعض ألفاظ القصيدة نفسها كقول الشاعر: (نَاعِينَا ـ يُبكينا ـ أعادينا ـ مآقينا ـ تأسينا ـ يُعَنِّينا) فالسببان الخفيفان الأخيران في هذه الألفاظ بينها تواؤم وتناغم وانسجام، هذا التناغم وثيق الصلة بتجربة الشاعر الملتاعة، والإيحاء برغبته في الخروج من أسر البعد والنأي والبكاء والعداء والأسى والعناء إلى العالم الرحب الفسيح العامر بالسعادة والهناءة والفرحة باللقاء بعد طول شقاء، فالكسرة في الأسباب الخفيفة في هذه الألفاظ (عِي/ كِي/ دِي/ قِي/ سِي/ نِي) تعبر عن تجربة الأسى والشجن وحالة الانكسار، والفتحة في الأسباب الخفيفة الأخيرة في هذه الألفاظ السابقة (نا) تعبر عن تجربة الأمل والرغبة في الود واللقاء والصفاء.
ونرى الشئ نفسه في القصيدة نفسها في مفردات أخرى، نرى بين أسبابها توافقاً وانسجاماً وذلك في الحديث عن فرح الشاعر ومرحه ووده وصفائه، كقوله: (تصافينا ـ رياحينا ـ يُحيِّيْنَا ـ أفانينا ـ يغنينا)، فقد استطاع الشاعر أن يوائم بين تجربته الشعرية وما تعبر عنه الأوتاد والأسباب في هذه الألفاظ من إيحاء وتصوير، وتناسق وانسجام في التعبير والتحبير، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما كانت تزخر به القصيدة الأندلسية ــ بصفة عامة ــ من معالم فنية وحضارية ومنها هذا التناغم وذاك الانسجام في مقاطعها العروضية وصلته بالتجربة الشعرية.
وفي قصيدة أبي البقاء الرندي الذي يقول في مطلعها:
لكل شئٍ إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سرَّه زمن ساءته أزمانُ
نرى التناغم الموسيقي بين الأسباب الخفيفة في بعض ألفاظها، هذا التناغم وذاك الانسجام الذي يوحي بتجربة الشاعر، ويعبر عن مشاعره وأحاسيسه حول الأندلس المفقود، ففي العروض والضرب (صَانُ) و(سَانُ) في البيت الأول توافق وانسجام بين السببين الخفيفين (صَا ـ نُ) و(سَا ـ نُ) وتجربة الشاعر ومشاعره وأحاسيسه المغلفة بالحذر من تقلبات الحياة الدنيا وتصارعها مع الإنسان في حياته، فالسبب الخفيف الأول في العروض والضرب (صَا ـ سَا) يشير مع ارتفاع الصوت إلى أعلى إلى ما كان عليه الأندلس من حضارة ورقي وسمو، والسبب الخفيف الثاني فيهما (نُ ـ نُ) والناشئ من إشباع حركة النون بالضم يشير إلى أن الأحزان ضمت المسلمين في طياتها، وأحاطتهم بأحزانها، فثمة توافق وانسجام بين المقاطع العروضية وتجربة الشاعر المكلومة، وهذا كله ناشئ من ذاك المناخ المأساوي الذي يغلف القصيدة حول الممالك الإسلامية الزائلة، وما حل بها من فجائع الدهر ونوازله.
المحور الثاني: التناغم الموسيقي بين الألفاظ وصلته بالتجربة الشعرية في القصيدة الأندلسية
بدا هذا التناغم وذاك الانسجام بين مقاطع اللفظ الواحد وغيره في القصائد المشار إليها سابقاً، حيث نرى فيها بعض الألفاظ وقد اتفقت مقاطعها، ونشأ عن هذا الاتفاق تناغم بينها وبين التجارب الشعرية لدى الشعراء، ففي البيت الرابع عشر من قصيدة أبي البقاء الرندي والذي يقول فيه:
وللحوادث سُلْوانٌ يُسهِّلُها
وما لما حلَّ بالإسلام سُلوانُ
نرى هذا التناغم وذاك الانسجام بين قوله (سُلْوَانٌ) في الشطر الأول و (سُلْوَانُ) في الشطر الثاني من هذا البيت، فكل كلمة تشتمل على ثلاثة أسباب خفيفة (سُلْ ـ وَا ـ نُو) وذلك بإشباع الضمة، ومعنى الكلمة الأولى في الشطر الأول (الصبر)، ومعنى الثانية في الشطر الثاني (النسيان)، وبين الكلمتين جناس تام، وجاء الحرف الأول في السببين الخفيفين الأول والثالث فيهما مضموماً (سُ/ نُ)، والحرف الأول من السبب الخفيف الثاني فيهما مفتوحاً، وضمة السببين توحي بمشاعر الحزن والأسى لما أصاب المدن الأندلسية من ضياع، ومالحق بالحضارة الأندلسية من زوال واندثار، فكأن الأحزان قد ضمتها في طياتها، ثم أتى الشاعر بالحرف الأول من السبب الخفيف الثاني فيهما (وَا) مفتوحاً ليشير إلى الرغبة في الخروج من أسر الضياع والزوال إلى عودة الحضارة الأندلسية إلى رقيها وازدهارها، لكن سرعان ما أتى السبب الخفيف الثالث مضموماً (نُو) ليعبر عن عدم الجدوى من عودة الأندلس إلى سابق عهدها وسالف مجدها.
ومن أجل ذلك عبرت الكلمة الأولى بأسبابها الخفيفة عن الصبر، والكلمة الثانية بأسبابها الخفيفة عن النسيان، إذ لامجال للحديث عن عودة الحضارة الأندلسية إلى مجدها وعزها وازدهارها، فثمة انسجام بين الكلمتين في هذا البيت من جهة، وتناغم بين الكلمتين وتجربة الشاعر الحزينة من جهة أخرى، هذا التناغم الذي يشعر بالمناخ المأساوي الذي يكتنف الأندلس، ويُصور الألم والجزع الذي يغلفه، وذلك على الرغم من مجئ السبب الخفيف الثاني في الكلمة مفتوحاً والذي يشعر بالرغبة في الخروج من الألم إلى عالم الأمل، ويؤكد ذلك مجئ لفظ (نُقْصَانُ)، ليُوحي بأن النقصان عام يشمل كل شيء في الحياة.
ولم يقتصر الانسجام المقطعي العروضي على قصيدة أبي البقاء الرندي في الرثاء وإنما بدا في قصيدة الشكوى التي سبق ذكرها لابن زيدون وذلك في البيت الأول منها في قول الشاعر في عروض الشطر الأول: (بَاسُ) والضرب في قوله: (يَاسُو) حيث يقول:
ما على ظني بَاسُ
يجرح الدهر ويَاسُو
وقوله: (يَاسُ) في الشطر الثاني من البيت الثاني حيث يقول:
ربما أشرف بالمرء
على الآمال يَاسُ
وقوله: (خَاسُوا) في الشطر الثاني من البيت الثالث عشر حيث يقول:
ما ترى في معشر حا
لوا عن العهد وخاسوا
فبين هذه الألفاظ ونظائرها تناغم وانسجام، فالفتحة والضمة في السببين الخفيفين في هذه الألفاظ توحيان بأن الشاعر يعلن بصوت عالٍ عن ضيقه وضجره من دهره وزمانه، فهو يجرحه ويداوي جرحه، ويمنحه ويسلب منه ما منحه، يعطيه ويمنع عنه ما أعطاه إياه، فتجربة الشاعر في هذه الأبيات تنسجم مع الأسباب الخفيفة المكونة لهذه الألفاظ، مما يشير إلى التناغم بين الأسباب في الكلمة الواحدة، وبين الأسباب في مثيلها من الألفاظ.
ونرى الشئ نفسه في هذه القصيدة في البيت الخامس عشر في قول الشاعر: (فانتهاش وانتهاس) حيث يقول:
أذؤبٌ هامت بلحمي
فَانْتِهَاشُ وَانْتِهَاسُ
فكل كلمة من هاتين الكلمتين تشتمل على سببين خفيفين بينهما وتد مجموع (اه ااه اه) وبين الأسباب والأوتاد في هاتين الكلمتين تناغم وانسجام وتناسب مع مشاعر الشاعر وأحاسيسه، فالشاعر لم يقتصر على وصف أعدائه بالذئاب المفترسة فحسب وإنما أراد أن يصور أعداءه بأنهم ذئاب يعرفون فريستهم ومن أين تؤكل، إذ الانتهاش هو العضُّ بالأسنان والأضراس، والانتهاس يكون بمقدم الأسنان، فبين الكلمتين تناغم في الأسباب والأوتاد من ناحية وبينها وبين المعنى تناغم وانسجام من ناحية أخرى.
المحور الثالث: التناغم الموسيقي في الجمل والعبارات وصلته بالتجربة الشعرية في القصيدة الأندلسية
بدا هذا اللون من الانسجام والتناغم في قصيدتي الشكوى ورثاء المدن والممالك الزائلة الواردتين سابقاً، فكل جملة وما يماثلها تحتوي على عدة مقاطع عروضية توحي بحركاتها وسكناتها ما يعتصر الشاعرَ من ألم ذاتي أو بكاء جمعي، وتعبر تعبيراً صادقاً عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه المكلومة، فمن النوع الأول ـ الشكوى ـ قول ابن زيدون في البيت السادس من قصيدته (شكوى سجين): (عَزَّ ناسٌ ـ ذَلَّ ناسُ) وذلك في قوله:
وكذا الدهر إذا ما
عز نَاسُ ذل نَاسُ
فكل جملة من هاتين الجملتين تشتمل على سببين خفيفين بينهما وتد مجموع (اه ااه اه) وبينهما تضاد ومقابلة في المعنى، وقد عبر كل مقطع عروضي فيهما عن هذا التضاد وتلك المقابلة.
ولاشك أن التناقض والتضاد يُوجِد في الحياة الأمل واليأس والقنوط والرجاء، والسعادة والشقاء مما يدفع الإنسان لأن يعجب من هذه التناقضات الغريبة التي تجعل قلبه داميا، ونفسه مجرحة وعينه مقرحة وروحه حيرى، وفي كل هذا يشعر القارئ بتلك النغمات الموسيقية الحزينة والإيقاعات المؤلمة الناشئة عن تجانس الأسباب والأوتاد في الجمل والعبارات وتناغمها ومشاعر الشاعر وأحاسيسه.
ونرى الشئ نفسه في قصيدة ابن زيدون في الغزل، في بيته الرابع الذي يقول فيه:
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
فقوله: (يُضْحِكُنَا) يشتمل على سبب خفيف وفاصلة صغرى (اه اااه)، وقوله: (يُبْكِيْنَا) يشتمل على ثلاثة أسباب خفيفة (اه اه اه)، وثمة تواؤم وانسجام بين تلك المقاطع العروضية في هاتين الجملتين، نشأ عنه التناقض والتضاد في المعنى، وقد جعل الشاعر سببا واحداً لهاتين الجملتين ألا وهو الزمان الذي اشقى الشاعر بعد هناء، وأغمه بعد سراء، وجعل حياته بين أمور متناقضة، بين فرح وترح، وسلب وإيجاب، ونعيم وجحيم، وبعد وجفاء، ونأى ولقاء، وكدر وصفاء، وظلام ومساء، وضحك وبكاء، فالتضاد يُعد تقابلاً نغمياً يحرك الذهن ويساعد على التناغم والانسجام.
وبعد.. فهذا التناغم وذاك الانسجام المقطعي العروضي في القصيدة الأندلسية يُجلي هذا التناقض الغريب والتضاد العجيب في الحياة الأندلسية، هذا الأمر الناشئ عن التناقض الجلي في حياة الشعراء آنذاك، والتضاد اللفظي والمعنوي في قصائدهم، الموحي بتجاربهم الذاتية والجمعية، النابعة عن الآلام والآمال والأفراح والأتراح، وليس أدل على ذلك مما قاله الدكتور مصطفى الشكعة في تعليقه على القصيدة الأندلسية: “إن القصيدة كنز ثمين، غني بدرر المعاني ورفيع العواطف ورقيق الأساليب وسحر الإيقاع والعاطفة الدافقة والأشواق المتزاحمة والصور الزاهية بألوانها البارعة..”(6)، لذا ينبغي أن يتسع المجال ويكثر القول من الباحثين حول هذه الظاهرة الأدبية الجميلة، وما تشتمل عليه القصيدة الأندلسية من سمات فنية ومعالم حضارية.
المراجع والهوامش
1ـ ديوان ابن هانئ الأندلسي. ط. دار صادر بيروت ص166.
2ـ الأدب الأندلسي في عصر الموحدين . د/حكمة علي الألوسي. الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة ص143، ص145.
وينظر: الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه. د/ مصطفى الشكعة. دار العلم للملايين. ط السابعة سنة1992م. ص549، ص554.
3ـ الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه. ص201، ص202.
4ـ ابن زيدون حياته وشعره. د/ محمد السعدي فرهود. ط. أولى سنة1389هـ/ سنة1969م. مطبعة الرسالة القاهرة. ص57، ص79.
5ـ ديوان ابن زيدون. ط. الشركة اللبنانية للكتاب ص68، ص73.
6ـ الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه ص208، ص209.