محمد نبيل محمد يكتب : الثقافة والهوية الوطنية (3) ..ثقافة الإدارة وإدارة الثقافة

لاشك أن أى نشاط يقوم به الإنسان يستهدف منه بداية صالح حياته واستقرار وجوده، ومن هنا كانت اجتهادات العقل الإنسانى فى التنظير وصياغة الأطر الناجعة بغرض تيسير تحقيق جملة الأهداف التى ينشدها، ونحت الإبداع العقلى ضمن حزمة العلوم الإنسانية والتطبيقية علم الإدارة الذى ييتلخص فى بحر تعريفاته: عند قيام العقل استجابة لتلبية احتياجاته فى أمر ما بالتخطيط العلمى الدقيق والممنهج نحو تطويع الامكانات المتاحة والممكنة، وتحفيز المقدرات المتوقعة والمقترحة، باختلافهما ما بين المادية منها والمجردة، بغية تحقيق هدف أعلى أو جملة أهداف، بتراتبية مرحلية ذات إطار زمنى، وخلال حيز مكانى، يضمان معا جمهور مستهدف، عظيم العدد كان أو محدود، على أن يراعى فى التخطيط واقعيته وقابليته للتنفيذ، ومراجعة مراحله تباعا لتصويب الآداء وفق ما هو مخطط، مع توقع حدوث قيم ظرفية مكانية أو زمانية أو متغيرات ذات علاقة بمرونة تغير هدف مرحلى أو عدة أهداف، تبعا لتغير الإتاحة والمنع للمقدرات والامكانات، أو تغير البعد الإنسانى سواء للقائم بتنفيذ المخطط أو لهؤلاء من الجمهور المستهدف.
أما المفردة التالية فى الإصطلاح وهى “الثقافة” فتشمل عدة معان منها فى معناها اللفظى، وآخر يتضمن معناها الإجرائى أو الوظيفى، وربما كان القصد هنا ما تقوم به الثقافة من حيث الدور والرسالة تجاه مجتمعها بإعتبارها تجسد منتج مادى ملموس أوتبدع إخر مجرد، وكلاهما يحققان للإنسان قدرا من التحضر ومستوى من المدنية، وللثقافة امكانات ومقدرات وطاقات هى جملة المواد الخام التى من الواجب حسن إدارتها بغرض تلبية احتياجات المتلقين من انتاج حضارة ذات مظاهر مدنية.
وعند الحديث عن إدارة الثقافة فنحن هنا نبغى إلية تحقيق استراتيجية ثقافية تتناغم مع متطلبات التحضر والارتقاء للجمهور المستهدف، وذلك من خلال تحديد الامكانات البشرية من هؤلاء المثقفين من الفنانين (رساميين وتشكيليين ونحاتين والمخرجين والمصورين وممثلين وموسيقييين ومطربين و..) و غيرهم من الأدباء ( الشعراء والقاصين والروائيين والنقاد و..) وأيضا هؤلاء المفكريين والقلاسفة ولا نتجاهل الاعلاميين (الصحفيين والمذيعيين والمترجمين وصناع المحتوى التقليدى والرقمى) إلى عير هؤلاء من القائمين بالعمل الثقافى وهم من الإداريين والفنيين والمعاونيين من التخصصات المتنوعة التى لا يستقيم عمل إلا بوجودهم بمستويات ودرجات حضور مختلفة.
ثم الحديث عن الامكانات غير البشرية كما هى فى المواقع الثقافية (مسرح وسينما ومكتبة وقاعات ندوات ومؤتمرات وحفلات ومعارض) وغيرها من أماكن مخصصة لورش ومعامل وحلقات التدريب النوعى فى مضمونه وموضوعه والمختلف فى فئات المتدربين، وأيضا القائمين على التدريب.
ثم يأتى الدور عن الموضوعات والمحتوى والبرامج والرسائل والمفاهيم التى تصيغها الثقافة بتنوعاتها داخل هذه الاماكن المخصصة لعرض وتقديم محتوى الرسالة الثقافية، أو غيرها وصولا لهؤلاء من الجمهور المتلقى العام أو النوعى.
وفى سياق واحد متصل يأتى دور الإدارة التى تتعامل مع كل ماسبق سرده وغيره من المتوقع والمحتمل والممكن والمتاح والمخطط والطارىء فى إطار علمى مخطط وممنهج للوصول لتحقيق أهداف ثقافية مرحلية متتابعة أو متزامنة لتشكل فى النهاية الاستراتيجية الثقافية الوطنية.
أما عندما يكون الحديث عن ثقافة الإدارة فهنا الأمر فى غاية الإختلاف عن إدارة الثقافة، فنحن نتعامل مع مدير مثقف بثراء الثقافة الأفقية فى معظم تنويعات المعارف والعلوم والفنون والآداب والفكر والفلسفات، والأهم أنه ذا ثقافة رأسية عميقة تخصصية فيما يبرع فيه ويتقن آداءه على الوجه الأكمل، وربما يتطلب هذا الحال مديرا ذا قدرة استيعابية للخبرات وإمكانية متفوقة فى تحليل البيانات ـ آنيا ـ واستخراج المعلومات منها بدقة متناهية، هو ليس الإنسان السوبر (!) إنما الحديث عن المدير المتميز الواعى والمدرك لمتطلبات عمله وما يستوجب عليه فعله والقيام به، وقد نراه فى المصنع والمزرعة والمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة والنادى وفى عموم مجالات الحياة وقد يكون هذا المدير المثقف وزيرا أو رئيسا للورراء.
وبعيدا عن المطلق، واتجاها للتخصيص، يأتى الحديث عن زيارة رئيس الوزراء لمحافظة الوادى الجديد برفقة محافظى الوادى ومطروح وقنا وفى توقيت متزامن مع لقاء رئيس الجمهورية القائد اللى للقوات المسلحة مع القيادات العسكرية على اختلاف مستوياتها القيادية فى العاصمة الإدارية، وهنا رسالة الدولة الرسمية للداخل فى دلالة على إن التناغم بلغ مداه فى ثقافة الإدارة لشئون الدولة المصرية من العاصمة الإدارية إلى أقصى غرب الدولة فى نظام إدارى مصغر يحاكى العاصمة الإدارية فى محافظة الواى الجديد التى هى رغم ندرة سكانها الذين يناهزون المائتى وثمانين ألفا من المصريين على مساحة شاسعة تبلغ ما يزيد على 40% من مساحة الجمهورية البالغ مليون كيلومتر مربع، إلا إن إهتمام الدولة وبأعلى مستويات الإدارة بمواطنيها تطول مظلته كافة ربوع الوطن إذ تعلن ثقافة الإدارة المصرية عدالة إدارتها لعموم مواطنيها فوق الثرى المصرى وتحت العلم المصرى، إبمانا باستراتيجية تقول :” كلما قويت أطراف الدولة دل ذلك على قوة نواتها” وتلك ثقافة الإدارة من الدولة المصرية .
أما إدارة الثقافة والحديث هنا مازال فى الوادى الجديد مكانا وزمانا، يأتى خلال زيارة رئيس الوزراء، فلم يكن للثقافة وجودا منظورا وملموسا، فقد افتتح شباب وأطفال الشباب والرياضة فعاليات فنية ورياضية نوعية تتفق وثقافة أهالى الوادى الجديد وكذلك كان الحال فى التربية والتعليم التى قدمت مدارسها ذات التعليم العام والتعليم الفنى التطبيقى، وكذلك الحال للتعليم العالى الذى تقدم من خلال جامعة الوادى الجديد بقاعاته وقدراته التعليمية المعاصرة لمتطلبات الرقمنة والتكنولوجيا، ولم تغب الصحة عن المشهد وكذلك الزراعة بحلمها المشروع بزراعة الخمس ملايين نخلة لتغدو مصر الأولى عالميا فى زراعة النخيل ومنتجاته، وتوجت الزيارة بلقاء رئيس الوزراء مع علماء وأساتذة وأطباء ومشايخ ومسنثمرين الوادى الجديد داخل النموذح المحاكى للعاصمة الإدارية الذى يضم كافة مديريات المحافظة.
وغابت من مركز الصورة بل تلاشت فى أى من زواياها موضع ولو يسير وصغيريمثل الثقافة فى الوادى الجديد على الرغم من إعلان هيئة قصور الثقافة عقب مؤتمر الأدباء العام فى نوفمبر 2023 أنها عاصمة الثقافة المصرية وما يستوجب ذلك الاعلان المفروض أنه لم يكن إعلان دعائى أجوف من محتواها، بل كان إجرائيا واصطلاحا يعنى افتتاحات لبنى ثقافية مطورة ومجددة وزيادة فى مواقع الثقافة بالوادى الجديد خدمة للمواطن الذى نعمل جميعا من أجل ارتقاءه وتحضره وتثقيفه، ولم يكن على الأقل هناك تطويرا لمواقع ثقافية لم ترى العناية والإهتمام منذ انشاء معظمها فى ثمانينيات القرن السابق والبعض منها مهدى من الحكم المحلى فى حجرة أو قاعة لم تمتد إليها يد الرعاية والتجديد لتصيغ عنوانا مازال عبق برائحة القرون الأولى(!).
فضلا عن عدم تشكيل لفرق فنية جديدة للاطفال أو الشباب أو لأصحاب الاحتياجات الخاصة رغم إلحاح كل هؤلاء وطلبهم المتكرر بتكوين فرق تعبر عن ثقافاتهم البدوية والواحاتية.
ولم يختلف الحال عن عدم تأسيس نواد للقصة أو الشعر أو للأدباء فى واحتى باريس جنوبا أو الفرافرة شمالا على سبيل المثال لا الحصر.
المثير للدهشة ـ باستنكار وليس باعجاب ـ أنه حتى الموقعين الوحيدين الذين تم تجديدهما منذ سنوات أشرفت على العقد الكامل لم يفتتحا بشكل رسمى حتى الآن وخلال عام كامل من إعلان الوادى الجديد عاصمة الثقافة المصرية، والموقعان هما سينما ومسرح هيبس بالواحات الخارجة ومثل ذاك الموقع تحت عنوان قصر ثقافة بواحة موط، رغم الملايين المنفقة عليهما الا انهما حتى لم يعملا بشكل ولو غير رسمى ولا حتى بكامل طاقتهما ولم يتوفر لهما الطاقة البشرية المناسبة لحسن تشغيلهما للصالح العام ولصالح الشأن الثقافى.
ونتحدث عن مواقع الثقافة فى الوادى الجديد منها بالتحديد والحصر مكتبة الوادى الجديد، وقصور ثقافه الخارجة، وموط، والطفل بالخارجة، وبيوت ثقافه المنيرة، وناصر الثوره، وبولاق، وشرق بولاق، وصنعاء، وتنيده، والمعصرة، وبلاط، والقصر، والجديدة، والراشدة، ومكتبه الطفل والشباب بباريس، ومركز ابداع حسن فتحي بباريس، ووحدة التدريب على الحرف اليدوية… وجميعهم لم تطله يد التطوير عدا الموقعين المشار إليهما ولم يفتتحا.
نتحدث أيضا عن حرمان أهالى الوادى الجديد بعد إعلان محافظتهم عاصمة الثقافة فقد حرموا مما تمتع به أهالى بورسعيد عند اعلان محافظتهم عاصمة الثقافة المصرية، فما حدث فى بورسعيد لم يحدث فى الوادى الجديد وبالمناسبة فى مرسى مطروح عندما تم الإعلان عنها عاصمة الثقافة المصرية فى نوفمبر 2019 فلم تنتقل الاوبرا بفرقها الموسيقا العربية والبالية وغيرهما، ولم يقام معرضا للكتاب، ولم تقدم فرقتى الفنون الشعبية ورضا عروضهما، وكذلك لم ينتقل السيرك القومى، ولم تشهد حفلات فنية غير اعتيادية حتى لم تنتقل إليها فرقا من فرق قصور الثقافة الهيئة التى أعلنت بمنتهى الجرأة والإندفاع غير المخطط أن محافظة الوادى الجديد عاصمة للثقافة المصرية.
هذا الإعلان الأجوف من حقيقة الفعل، والمنعدم من ممارساته الإجرائية جعل الثقافة على الأرض خالية الوفاض، ولم يعبر سوى عن عدم الاكتراث لرسالة الثقافة وأدوارها، وعدم ادراك المعنى الحقيقى لإدارة الثقافة، فقد كانت الفرصة مواتية على مدار عاما كاملا أن تدير الثقافة مقدراتها وتعمل امكاناتها نحو الاندماج فى استراتيجية الدولة فى بناء الانسان، وما للثقافة من دور هام ومؤثر فى ذاك الشأن لم يتم تفعيله بل على العكس تماما تم تعطيله والتقصير فى آداءه، والتساؤل الذى يفرض نفسه ـ تلقائيا ـ إذا كانت إدراة الثقافة فى عاصمة الثقافة بهذا الحال فما هو عنوان إدراة الثقافة فى عموم المحافظات؟ (!)
الخيال لا يحتمل أن تعلن الثقافة عقب مؤتمر الأدباء العام فى المنيا أن محافظة المنيا عاصمة الثقافة المصرية، نعم الخيال لن يأتى إلى الواقع بهذه الفرضية العبثية(!).