” أنياب الظلام ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

الشاعر محمد الشرقاوي
تستعد الشمس للسفر نحو النصف الآخر من الكوكب ، أشعتها تنسحب رويدا رويدا من نوافذ العمارات وأوراق الأشجار ، لكنها تنعكس على صفحة النيل بلون ذهبي في لوحة إبداعية تشهد بجمال وسحر فائقين ، السيارات تمضي مسرعة في الاتجاهين من هذا الشارع المزدحم على مدار ساعات اليوم ،
إنه كورنيش هذه المدينة الكبيرة العامرة والصاخبة ، هنا لا تتوقف الحركة من أجل اللحاق بأخر عربة في قطار الحياة الشاقة التي تشبه جلادا يقبض بين يديه سوطا غليظا يهوي به على ظهور الأبرياء والضعفاء قائلا بصوت ضخم مرعب : عليكم بسرعة الحركة أو الموت بعيدا بلا استجداء معونة أو عطف .
على وجه هذا الرجل تبدو علامات البراءة والنقاء ، إنه شعبان القادم من أدغال الصعيد ، يرتدي جلبابا أنيقا وفي يديه حقيبتان من البلاستيك مكتظتان بمحتويات متنوعة ،
تتجه عيناه نحو المبني الشاهق الذي يبدو من بعيد ، إنه معهد الأورام ، تتسابق قدماه كي يصل دون تأخير ، فهناك من ينتظره بما يحمل من زيارة تضم أصنافا من الطعام والشراب ،
يسمع صوتا جهوريا : يا بلدينا ، يلتفت ليرى شخصا جالسا على أحد المقاعد الخشبية المنتشرة في هذه المنطقة ، يقترب ، يشعر بألفة ومودة دخلتا قلبه من خلال الزي المشترك بينهما ،
كذلك عمامة الشيخ البيضاء والشال المنساب على كتفيه وكتيب الأذكار القابع في راحة يده اليسرى وتلك المسبحة الطويلة التي تدور بين أصابع اليد اليمنى ، يجلس شعبان بجوار الشيخ نافع كما أخبره بهذا الاسم .
يقص الصعيدي قصته كاملة ، يطمئنه الشيخ بأن المريض سوف يتحسن وأن الأمور سوف تنقضي بخير ثم يقسم له أن الله قد أرسله له لأمر عظيم ، يمر بجوارهما رجل طويل القامة متوسط الحجم يرتدي نفس الزي الصعيدي الفخم ، يلقي السلام عليهما ،
يشير له الشيخ نافع بالجلوس سائلا عن اسمه فيخبره أن اسمه صادق ، ثم يخبره الشيخ عن اسمه ، يتهلل وجه صادق ويعلن سعادته الكبرى بلقاء الشيخ مقسما أنه يبحث عنه منذ قدومه من بلدته لأنه سمع عن كراماته من عدد ضخم من الناس الذين يعرفهم معرفة شخصية ثم ينحني ليقبل يده في محاولة من الشيخ لرفض ذلك دون جدوى ثم يؤكد أنه يتلقى كل يوم مهام محددة في أماكن محددة ،
يزداد اطمئنان شعبان ويتراقص قلبه فرحا ، فربما يجد معونة في أمر ما ، فأمثال هذا الشيخ لهم من الكرامات ما لا يحصى ولا يعد ، هكذا سمع كثيرا من أهله وأصدقائه وجيرانه في قريته .
يقص صادق بعض همومه للشيخ طالبا منه العون ، فيأمره الآخر بإظهار كل ما يمتلك من أموال وخلافه ، يخرج صادق
حافظة نقوده وأوراقه وهاتفه المحمول وحقيبة صغيرة في يده ثم يضع كل ذلك في حجر الشيخ الذي يأمره بإحضار
ورقتين من شجرة على مسافة مائة خطوة وأن يلاحظ جيدا التركيز في العدد ثم يعود ليخبره بما رأى عند الشجرة ،
يذهب صادق ويعود مقدما الورقتين للشيخ ومبديا دهشة عظيمة
شعبان : ماذا يدهشك ؟
صادق : لقد رأيت ملائكة بوجوه بيضاء وملابس كلها بيضاء .
نافع : الله أكبر ، الله أكبر ، ستجد كنزا بعد يومين ولكن بشرط ألا تخبر أحدا ، خذ أغراضك واجلس إن أردت .
يلتقط صادق أغراضه ويجلس مستمعا لما يدور .
يلتفت شعبان بكل إعجاب نحو الشيخ طالبا منه العون ، فلديه من المشكلات ما تنوء به الجبال الصلبة الشاهقة ،
يطمئنه نافع قائلا : لك ما تريد ، عليك بإحضار ورقتين من شجرة على مسافة مائتي خطوة تماما من هذه الجهة
ولكن قبل ذلك عليك أن تترك كل ما تملك ، لأن هذه الكرامات لا تظهر إلا لمن تجرد من متاع الدنيا ، صدقني سوف
تجد كنزا بعد خمسة أيام ، هيا أسرع لأن لدي موعد مع أولياء الله الصالحين ،
يضع شعبان أمواله وهاتفه المحمول وحافظة أوراقه في حجر الشيخ ويترك الأمتعة بجواره ثم يمضي متفائلا لإحضار ما
طلبه من نفس الجهة التي تشير إليها يده ، تتوالى خطوات شعبان مسرعة لإدراك الشجرة من نفس المسافة
المحددة ، يقترب ويقترب ثم تحدثه نفسه بالنظر للخلف فإذا به يرى المفاجأة القاتلة ،
يسرع صادق والشيخ نافع نحو الموتوسيكل الواقف بجوارهما ، يركبانه وينطلقان بأقصى سرعة ، يمسك شعبان طرف
جلبابه بيده ويهرول خلفهما لكنهما يذوبان كذوبان الثلج في الماء المغلي ، سيول من الدموع تتساقط من عينيه نادبا
حظه مقسما أنه لم يعد يمتلك شيئا من المال كي يعود إلى قريته .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.